لحظة الحقيقة في «جمهورية المليون قتيل»

TT

«لحظة الحقيقة»، دهر مريع يمتد بين «أم المعارك» و«أم القنابل».

في الأولى أراد صدام حسين أن يحرر القدس عبر الكويت، وفي الثانية يريد جورج بوش أن يحمي الأمن القومي الأمريكي بدءا من بغداد. يا لهؤلاء الرؤساء الذين يجهلون الاتجاهات الأربعة ويقرأون الخرائط بالمقلوب.

لكن «لحظة الحقيقة» ما كانت يوما بين جورج بوش وصدام حسين فقط، فمثل هذه اللحظة قد حلت أيضا، لآلاف المرات، في زمن العلاقة بين الشعب العراقي وأشقائه العرب، من مغربهم الى مشرقهم.

كل روابط الدين واللغة والأخوة وأعراف الجوار وتقاليد البدو والحضر معا، تؤكد على نصرة المظلوم ضد الظالم، وإيواء الهارب من ظلم أو شر يهدده، ومد يد العون للمحتاجين ماديا أو عيانيا، هذا إذا استبعدنا لغة السياسة وقوانين حقوق الإنسان وحقوق المواطن في الحرية والتعبير والتظاهر والحق بالحصول على المعلومات من مصادرها وإشاعة الشفافية بين الحاكم والمحكوم وما نعتبره، نحن العراقيين، ضربا من الأوهام والمستحيلات العشرة عبر تاريخنا الدموي المعاصر المكتوب بأنات الثكالى وذعر البنات وخوف الأخوة وحيرة الأبناء ودم الأشقاء المسفوح على أديم حروب صدام حسين على الداخل والخارج. ولا أظن أن عربيا بحاجة الى تواريخ وأمكنة، فالمتداول من الأخبار والمعلومات، على شحته وتشويهه وتسريبه بالقطارة من «جمهورية المليون قتيل»، يكفي لأن يفهم الشقيق العربي ان ما جرى في العراق لم يجر في أي بلد عربي، وما يتعرض له المواطن العراقي على أيدي الصناديد المهزومين دوما في الحروب والمنتصرين دوما علينا، لم يتعرض له أحد.

لم يفت الوقت بعد، فالنظام العربي الرسمي يمكن له فعل الكثير، أثناء هذه الحرب المشتعلة، أو بعدها، فما زلنا بحاجة قصوى الى تفهم ودعم أشقائنا العرب، على مختلف المستويات، فالعراق هذه الأيام لا يجد ما يأمن به ولا ما يقيم أوده ولا يضمد جراحه النازفة لأكثر من سبب وبأكثر من صاروخ وقنبلة.

لا نريد أن نقلب صفحات الماضي التعيس عندما كان صراخ العراقيين هواء في شبك وهم يستنجدون بالشقيق وقد عز الصديق.

كان الجميع، تقريبا، يصفقون لبطل «القادسية» ويمدونه بالعتاد والمال والنصيحة ومانشيت الجريدة وتلبية دعوة الوليمة (أتذكر، أثناء الحرب مع إيران، أنني دعوت فنانين وصحفيين أصدقاء كويتيين الى بيتي في دمشق ـ وليس في بغداد ـ فاشترطوا علي لتلبية الدعوة أن لا أتحدث في السياسة = ضد صدام)!!

لا أظن ثمة حاجة الى التأكيد أن أي حاكم بديل لصدام في العراق، يمكن أن يكون أسوأ منه(صدام)، فهل يدلنا أحد على دولة عربية أو غير عربية مجاورة للعراق عاشت بعلاقة سوية مع هذا الحاكم؟

فلماذا يدعمه البعض ويمد في عمره ويعزز غطرسته ويعمق معاناة العراقيين وعذابهم على يديه؟

ألا يمكن أن يكون لـ«المصالح المشتركة» وجه أكثر إنسانية ورأفة من خلال التمتع بنفط العراق وخيراته وطاقاته المديدة من دون ذبح شعبه ونفي مثقفيه ومفكريه والتنكيل بعلمائه ورجال دينه وسائر شخصياته السياسية؟

لماذا ينحاز الشقيق العربي، بحاكمه ووزير إعلامه ورئيس تحرير صحيفته ومدير أمنه ونجمه التلفزيوني، لصدام حسين ويتنكر لشعب تعداده خمسة وعشرون مليونا من البشر يمنعون حتى من إقامة مجلس فاتحة لقتلاهم؟

هل تجوز المقارنة بين صدام حسين والجواهري، وعزت الدوري وبلند الحيدري، وعلى كيمياوي والشيخ مصطفى جمال الدين، ومزبان خضر هادي وسعدي يوسف، وساجدة طلفاح وزها حديد؟

كيف نبرر لأمة تقف الى جانب الجلاد وتتجاهل الضحية؟

إن الكثير من الفضائيات العربية تضع أسماءنا على القائمة السوداء، وبعض موظفيها صار يعرفنا من نبرات أصواتنا، وإذا ما واتتنا الحيلة فاتصلنا بأسماء مستعارة فلن يتيحوا لنا الوقت الكافي للتعبير عن أفكارنا ما أن يشموا في كلماتنا معارضة لصدام، بينما يحتل الصداميون، عربا أو عراقيين، الوقت كله وبالزوم...

هل يعقل أن يشكل الكلام الصادر عن معارض عراقي هذا الخطر كله على دولة مدججة بأسلحة الدمار الشامل، أو على الأمن القومي العربي؟

بل ان بعض العواصم العربية تحتفي بالعفلقي المنشق على صدام وتمنحه الكثير من الامتيازات والتسهيلات وفرص العمل أكثر بما لا يقاس بالمعارضين الحقيقيين، وبذا يتكرس العفلقي المنشق نجما في المنفى بعد أن كان جلادا في الوطن، وهي معادلة لا تخلو من لبس، لكأن قدرنا أن يلاحقنا الصداميون، المنشقون ونصف المنشقين والموالون بالسر، حتى أبعد نقطة من منافينا ومغترباتنا الضيقة.

قد تكون بين اسباب الالتباس العربي ـ العراقي أزمة الوعي العام الذي يحدد عند صاحبه إدراكه لمفهوم العدالة، فحتى المواطن العربي البسيط تنطلي عليه أكاذيب الحاكم الدكتاتوري بينما يقارع حججنا الدامغة بشتى «الحجج» الواهية التي أقلها: إن صدام حسين الحاكم العربي الوحيد الذي قصف تل أبيب بالصواريخ!

وهذا المواطن لا يريد أن يقتنع بأن حاكما يقمع شعبه لا يجوز له أن يحرر شعبا آخر.

وعندما أخبرت مواطنا عربيا بأن صواريخ صدام (بالوناته) قد أفادت إسرائيل أكثر مما أضرتها، أجابني: المهم هو اتخاذ الخطوة!

ولكن ما هي مسوغات عرب صدام حسين في تأييده والتنكر لملايين العراقيين؟

لا يمكن للحقيقة مهما تدرعت بقوتها الذاتية أن تجيب على هذا السؤال بصراحة كاملة. لكن نصف الحقيقة يمكن أن يفي بنصف الغرض:

قد يساير الحاكم العربي توازنات القوى الداخلية في بلده (من ضمنها المواطن العربي أعلاه) فلا يمكنه، وهو المأزوم داخليا أيضا، أن يفتح جبهة داخلية تؤيد قصف تل أبيب وتقمع الشيعة في الداخل وتشن حربها عليهم في الخارج (ثماني سنوات مع إيران) وتقصف الأكراد بالكيماوي (لأنهم يهددون عاصمة الخلافة العربية)!

لقد ساد الاعتقاد لفترة طويلة، ولم يزل ربما، بأن التفاهم مع حاكم معروف ومكشوف، مثل صدام حسين، خير من حاكم شيعي رافضي أو سني لبرالي أو كردي معتدل أو علماني غير مأمون العواقب أو عسكري قومجي أو أو.. وتتعدد الاحتمالات غير المتوقعة، وليبق العراقيون يكابدون المحنة الأبدية، تحت مختلف الشعارات الفجة: عدم التدخل في الشؤون الداخلية.. كل الحكام العرب متشابهون.. نفط العرب للعرب.. العراقيون هم المعنيون في تبديل حاكمهم.

قد نجد العذر لتك السيدة السويدية التي وضعت اللوم على العراقيين لأنهم انتخبوا رئيسا مثل صدام حسين! ثم تستدرك السيدة السويدية بقولها: لم يفت الوقت بعد. لا تنتخبوه في المرة المقبلة!

ألم يرد في ذهن الشقيق العربي أن يحكم العراق رئيس عراقي منتخب (يحظى بإجماع الأغلبية) تساعده حكومة منتخبة يراقبها برلمان منتخب، وقضاء عادل لا يسمح بنهب ثروات البلاد ولا بالاعتقال الكيفي ويضمن حرية التعبير والسفر وبقية أصغر حقوق خلق الله (كما هو حاصل في الكويت مثلا)، أصغر جيران العراق مساحة ونفوسا وأكثرها أمنا وتداولا للسلطة وأعلى برلماناتها صوتا لولا تداعيات احتلال صدام الذي يسلب سلام شعبه وجيرانه؟

أو مثل لبنان، البلد الصغير أيضا، متعدد الأديان والطوائف والأحزاب، الذي لعب الأشقاء العرب دورا أساسيا في إنهاء حربه الأهلية واستعادة عافيته واستقراره وضمان أحلامه الأبعد من «أزمة الخليوي» وإغلاق قناة تلفزيونية؟

ألا يحق للمواطن العراقي أن يحسد أي مواطن عربي من دون استثناء لأنه مواطن يذهب الى الوظيفة ويسافر سائحا ويعود آمنا ويستخدم هاتفه من دون تنصت، ويتبادل النكات مع عائلته، حتى تلك التي تطال الحاكم، من دون وشاية من أحد أبنائه، ويؤدي خدمته العسكرية بزمان ومكان معلومين، ويستمع لمختلف إذاعات العالم ويتمتع بما يتيحه الكومبيوتر من اتصالات واطلاع وتصفح، وتلك من أبسط متاحات العالم اليوم، إن لم أقل أتفهها؟

الوقت لم يزل أمامنا، وإذا زالت الغمة الحالية فإن حاجتنا للأشقاء العرب ماثلة ونحتاج منهم الكثير الذي قد يكون أقل بكثير مما كلفهم صدام وحروبه وتدخلاته، حتى مؤتمرات القمة ستكون أكثر استرخاء وتهذيبا لو تنحى صدام وترك العراقيين والعرب يعيشون بأخوة حقيقية حيث الديمقراطية، كالطقس الجميل، يمكن للجميع أن يتمتعوا بها، ولا يستطيع أعتى الدكتاتوريين أن يحجبها عن سواه.