وقعت الواقعة

TT

قبل ساعات من انتهاء مهلة الانذار الذي وجهه بوش للرئيس العراقي انطلقت آلة الحرب الامريكية في هجوم عدواني على العراق، مؤكداً ان كل ما كنا نسمعه من مبررات وانذارات وتفسيرات كان مجرد اعداد المسرح العالمي لقبول الاحتلال الفعلي لواحدة من اهم الدول العربية والاسلامية.

ولقد كان خطاب بوش منذ ثلاثة ايام، تهديدا بالحرب وانذارا للقيادة العراقية بالتنحي ومغادرة البلاد، يعني ان على حاشية صدام حسين ان تقوم باغتياله فورا، وعلى العراقيين آنذاك الترحيب بالقوات الامريكية والبريطانية التي ستدخل العراق لتحريره، وكان الغريب ان هناك من تصور ان الجنود العراقيين، الذين عاشوا ما عاناه زملاؤهم عام 1991، ممن لم تسحقهم الدبابات الامريكية احياء في خنادقهم، كانوا سيسارعون للاستسلام لأول «يانكي» يرونه.

ولقد كان انذار بوش تعجيزا مفضوحا وضحكا على ذقون من خدعوا به، فلو كان اسقاط النظام العراقي هو الهدف لطالب بوش باجراء انتخابات حرة تحت اشراف الامم المتحدة، وعندها يقول الشعب في الشمال والجنوب والوسط كلمته ويؤكد ارادته.

ويتابع الوطن العربي والعالم الاسلامي اليوم سقوط القذائف على عاصمة الرشيد، وهو ممزق الوجدان بين اولئك الذين راحوا يدعون الحكمة بأثر رجعي ويعبرون عن عجزهم وتخاذلهم بفتح الملفات القديمة، وبين تيارات شعبية وصلت الى اليقين بأن عليها البحث عن زعامات جديدة واساليب جديدة تحل محل الزعامات المهترئة والاساليب البالية التي جعلت الشارع العربي ابعد الناس عن اهم ما يعنيه.

واجد نفسي، وهستريا الحرب تجعل الحياة جنونا والجنون ترفا، اعود ثانية الى كلمات قالها في السبعينات، المارشال مونتغومري، بطل الاربعينات، وهو يرد على تساؤلات للاستاذ محمد حسنين هيكل: «الناس لا يفهمون الحرب، يظنون انها ما يرونه على ظاهر الحوادث في ميادين القتال.. ممارسة للعنف عند الحد الاقصى منه.. صدام بالنيران تتدفق منه دماء غزيرة.. هذه ليست هي الحرب» (..): «انت سألتني عن علاقة الحرب بالاخلاق، أليس كذلك؟.. نعم.. العلاقة وثيقة.. اخلاقية الحرب هي التي تصنع مشروعيتها، وهذه المشروعية تحقق لك ميزتين اساسيتين لا تستطيع ان تحارب بغيرهما، الميزة الاولى، ان الرأي العام في وطنك يكون مقتنعا بانك تقوده الى الحرب، لانها الوسيلة الوحيدة المتاحة امامك للدفاع عن حقوق مشروعة، (..) لا تستطيع ان تشن الحرب لمجرد انك رفعت العلم وطالبت الامة بأن تتبعك.. الحماسة بنت لحظتها ثم تتبدد».

وقياسا على ذلك يتضح بان بوش فشل في اقناع الرأي العام بحججه، والمسيرات الصاخبة في الدول التي تحترم نفسها دليل واضح على ذلك، ناهيك عن المواقف التي اتخذتها تنظيمات واحزاب وهيئات تحترم نفسها، ولا تنتظر التعليمات بالهاتف او الفاكس، وبالتالي فكل من يقبل بقيادة بوش يتناقض مع الشرعية الدولية، وكل من يقدم له العون هو خارج عن الشرعية الدولية، بغض النظر عن النظرة الجهادية للامر كله.

ولقد ادعى بوش بانه يطبق قرارات الامم المتحدة، والمنظمة الاممية ترفض ذلك، وترفض التفسير الذي يعطيه للقرار 1441، والدليل هو انه لم يحاول دعوة الجمعية العامة لينتصر بها على مجلس الامن، الذي لم يجد فيه الا تابعين ذليلين رفض شعباهما الوضعية التي وصلا بها بامبراطوريتين كان لهما في العالم شأن كبير.

ولقد كان بوش هو الذي طلب من المفتشين ومراقبي الامم المتحدة مغادرة مواقعهم، وكان يمكن لكوفي انان ان يدخل الى التاريخ لو رمى باستقالته في وجه الجميع، لكنه وقع على قرار لم يتخذه وقام بدور المحلل مدفوع الاجر، وهكذا انتهى دوره كصانع للحدث.

واعود الى مونتغومري وهو يقول: «الميزة الثانية لمشروعية الحرب انها تعزل عدوك عن بقية العالم.. فمشروعية الحرب هي الارض التي يتحتم ان يتم النصر عليها، وبدونها يمكن ان تكون لطرف ما غلبة، لكن الغلبة غير النصر، فالغلبة التي تعتمد على القوة وتستغني عن المشروعية تنهي قتالا لكي تفتح الباب امام قتال جديد».

هل هناك صورة اكثر وضوحا لهذا من وضعية بوش الحالية، والذي كان من اطرف ما قيل عن لقائه برئيس وزراء كل من بريطانيا واسبانيا في جزر الآزور بانه «لقاء اكثر القادة عزلة في المعمورة، في اكثر الاماكن عزلة على المعمورة».

ولقد اتهم العرب بأنهم لا يقرأون، ونكتشف اليوم ان الاقوياء جدا لا يقرأون، وهم اذا قرأوا لا يستوعبون، وهم ينظرون ولا يرون ويتنصتون ولا يسمعون.

واضح اذن ان حرب بوش تفتقد المشروعية الدولية، ولا يشرفها القول ان ثلاثين دولة اعلنت عن دعمها، وان نصف هذا العدد يدعمها سرا، وكأن هناك من يعترف بأن دعم الحرب الامريكية مما ينطبق عليه مبدأ.. «اذا بليتم فاستتروا».

ولن اتطرق، عفة، لوسائل الضغط والترغيب والترهيب والتنصت على البعثات الدبلوماسية والغاء الديون عن بعض المدينين ورفع العقوبات عن بعض المعاقبين، فهذا كله جزء من منطق الحرب، والمؤسف فيه انه يبدو كرشوة مفضوحة تنقص حتى من قيمة الغلبة العسكرية، وهي غلبة محتملة الحدوث، بغض النظر عن بعدها الزمني وتكلفتها الحقيقية، ولكنها تطرح سؤالا لا بد من الرد عليه.

فلقد حشدت واشنطن نحو ثلاثمائة الف مقاتل مدرب على احدث اساليب القتال ومزود بترسانة رهيبة من حاملات الطائرات والقلاع الطائرة والمدمرات والدبابات والصواريخ وبكل ما انتجته المخابر الالكترونية من اجهزة تعمل بالاشعة تحت الحمراء واخرى تستعمل الموجات الصوتية، كل هذا الاحتلال بلد منزوع الاسلحة خائر القوى مفتت الرقعة الجغرافية، فما هو حجم القوة العسكرية التي كانت ستستخدم في حالة قيام حرب مع الاتحاد السوفيتي؟

واتصور ان الاجابة تشير الى بعض الاهداف المستقبلية لواشنطن، التي تريد ان تجعل من العراق اكبر قاعدة حربية في المنطقة، تتضاءل بجانبها كل رؤوس الجسور التي ستستخدم مرحليا الى ان يتم احتواء العراق تماما، ثم ينتهي دور من كانوا يتصورون ان التحالف مع امريكا هو بطاقة ضمان المستقبل، والذين يتصورون اننا نقف ضد الحرب حبّا في زيد او كرها في عمرو.

لكن هذه حرب بلا مشروعية، وهي ايضا حرب بدون اخلاق، فحجم الاكاذيب التي ارتبطت بها تجعل رفات الدكتور غوبلز تهتز في مرقدها الاخير.

واذا كانت كتابات عربية وتصريحات كثيرة تشعرنا بالمهانة لاننا لم نكن نتصور حجم الاختراق الذي نعانيه فلا بد من تسجيل الموقف الشجاع والنبيل الذي اتخذه الامير عبد الله بن عبد العزيز وعبر فيه عن شعور امة بأسرها، في الوقت الذي سقطت فيه زعامات وظهرت على حقيقتها قيادات وكتابات خدعنا بها طويلا.

وتبدو العملية كلها غطاء لعمليات اخرى منها اغتيال منظمة الامم المتحدة، لتلحق بعصبة الامم، حيث ان واشنطن غير مرتاحة لوجود قوى كبرى بجانبها في مجلس الامن، لها نفس الحقوق وعليها نفس الواجبات، ولا حديث عن الجمعية العامة التي ترى فيها ما يراه حاكم متخلف في رعاياه الاكثر تخلفا في واحدة من اكثر بلدان العالم تخلفا.

وهكذا يتم التخطيط لتحطيم الامم المتحدة، واقامة تنظيم جديد يحقق للقطب الاعظم حرية القرار ومجال الحركة، وهذا في حد ذاته يفسر الحملة الرهيبة ضد الموقف الفرنسي الشجاع.

ولعل النتيجة الثانية لما انطلقت بداياته صباح امس هو نهاية كل دور فاعل للقيادات العربية كشريك في اتخاذ القرارات الدولية، وبالذات تلك التي تهم المنطقة، وهكذا تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ العالم سيكون لها على المدى البعيد آثار ايجابية على الشارع العربي حتى ولو كانت آثارها الآنية مذلة ومحبطة وباهظة الثمن.

وينتابني احساس العاجز الذي يرى النار تشتعل امامه وتصل الى ثيابه وثياب من يحب، وهو لا يملك الا صوته او قلمه، ويتنامى في اعماقي كره رهيب احاول ان احتويه حتى لا اصيح كمواطن جزائري سمعته صباح اليوم (امس) وهو يرفع نظره الى السماء صارخا.. «أين زلازلك وبراكينك يا إلهي؟».

المهم ان ندرك جميعا أن عدونا الرئيسي اليوم هو الاحباط والاستسلام.

mohieddine 2002 @ hotmail.com