حرب السرطان الخبيث

TT

حاولت أن أكون أمريكية أكثر من الأمريكيين، وأن أوفر للمقيمين في البيت الأبيض كل ما يمكن أن يجعل تصريحاتهم تنطلي على المنطق ألف مرة دون شك فيها أو توجس.

ولكن كللت محاولتي هذه باليأس، وأعلم أن بعض العرب الذين نجحوا في أن يكونوا أمريكيين أكثر من الأمريكيين أنفسهم، لا يعجبهم فشل محاولتي، وربما سيعزون ذلك إلى أزمة فهم ذاتية أو إلى قصور في استيعاب منطق محور الخير والحضارة والحرية، ذلك المنطق، الذي يبدو أنه في غير متناول بلدان العالم الثالث والشعوب العربية.

ولا أدري ما إذا كان خطاب العرب الذين اختاروا أن يكونوا أمريكيين أكثر من الأمريكيين، قد طرأت عليه على الأقل، بعض التعديلات خاصة أن ما حصل خلال الأيام الأخيرة، يسمح بإقامة حوار حقيقي نستجيب فيه لانتقاداتهم ونتجاوز الخطاب الرنان والأخلاقي والرومانسي، الذي لم يتخلص من خطيئة الرؤية الشعرية في جوهره ومعانيه وأحلامه.

لقد اختارت الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا حليفتها في اختراق القانون وفي الاعتداء، أن تبدآ العدوان ضد العراق عند الفجر. أي أنهما أرادتا للفجر أن يكون لحظة الحقيقة التي لطالما تبجح بإعلانها جورج بوش، فتزامن العدوان على العراق مع العدوان على الفجر وتحويل وجهة رمزيته من الانفراج ومن الولادة ومن الأمل إلى رموز أخرى سوداء اللون، كريهة الرائحة.

ونفس هذا العدوان تزامن من جهة أخرى مع العدوان على مفهوم الحقيقة التي أصبحت صلصالا، تشكله الأيادي حسب المصلحة وحسب النوايا وحسب الأطماع والأحقاد، وحسب القدرة على التجاوز والاحتراف والانحراف.

إن جورج بوش لم يخطئ عندما وصف اللحظة التي يمر بها العالم اليوم بلحظة الحقيقة. ولكن الحقيقة التي نفهمها هي غير الحقيقة التي يريد للعالم أن يفهمها. كما أن دلائل كثيرة قاطعة في قوتها، تجعل من أمريكا وحليفتها بريطانيا تمثلان منطقة الرأس في محور الشر، وهو كلام يتجاوز إطار الشتم ويستند في توصيفه إلى معطيات واقعة شاهد العالم وقوعها بالبث المباشر.

فهل يمكن لدولة الخير والحرية والديموقراطية والقانون أن تعتدي على القانون وتجيز لنفسها استخدام القوة ضاربة بكل المجتمع الدولي عرض الحائط؟

وهل يمكن بخرق القانون الدولي وبالاستخفاف بكل قوى السلام، أن يتم سحق محور الشر كما تسميه واشنطن؟

والأغرب من كل هذا هو أن تشن واشنطن وبريطانيا عدوانهما على العراق بحجة عدم استجابته الكاملة والمشروطة للقرار 1441، والحال أنهما تتجاوزان غياب قرار يجيز استعمالهما للقوة، وتتجاوزان منظمة الأمم المتحدة ودورها وتتعاملان معها كطرف عديم الجدوى والفائدة.

إننا لا نستطيع أن نفهم الفعل السياسي الأمريكي، الذي توقفنا عبر الأسئلة المطروحة عند بعض مظاهره، إلا إذا استعملنا مفاهيم الاستبداد المطلق والقمع ومنطق حق القوة، وهي مفاهيم يسقط على أثرها كل القاموس السياسي الأمريكي، الذي يخاتل المتلقي العالمي باستعمال مفاهيم ذات خلفية أخلاقية وقانونية لا يمتّ لها الفعل السياسي الأمريكي الحالي بأي صلة.

إذاً لحظة الحقيقة، هي ضد أمريكا أولا وهي لحظة اِكتشاف الحقيقة الأمريكية، وهي لحظة التقديم اللاواعي للبراهين التي تثبت حقيقة أمريكا ذات الذهنية الأحادية التي تنبئ بتآكل العظمة الأمريكية وبأنها بدأت تطل على نهايتها في اللحظة التي أعلنت لحظة حقيقتها، وكسرت المكاسب الدولية وأظهرت ضآلة حجمها وأنها أعلى من القانون الدولي، وأعلى من الشرعية، وأعلى من القرارات الأممية.

ورغم أهمية التجاوزات، التي قامت بها السياسة الأمريكية والبريطانية ما قبل الحرب على العراق، فإن كل تلك التجاوزات يمكن أن ندرجها في خانة الأفعال الغاضبة، والأفعال الناقصة عقلا وأخلاقا، والأفعال التي تشير إلى بداية تقهقر دولة عظمى. ولكن هناك تجاوزات أخرى لا يمكن إلا أن نضعها في خانة الشر مع سبق الإصرار والترصد، وهي تجاوزات تجعل من دعاة مقاومة محور الشر، الشر ذاته وقلبه وهيئته.

في الفترة التي سبقت العدوان على العراق مارست أمريكا حربا ضد عقولنا، وضد نفسيتنا وهي حرب على شراستها وقوة إصاباتها، فإننا نتحمل جزءا من وقوعها لأننا انخرطنا في الاستجابة لتلك الحرب واعتبرنا الدمغجة والانتهاك اللغوي والإصطلاحي للمفاهيم، ضرورة اقتضاها منطق الفاعل القوي الذي تتيح له قوته إعادة صياغة المنظومة الأخلاقية للبشر والتلاعب بالمفاهيم العريقة التي تربى عليها الفهم البشري. أما الآن بعد أن تجاوزنا ما قبل العدوان وصرنا في حاضره، فإن الحرب الثالثة التي تعقب الحربين ضد العقل والنفسية العربيين، هي حرب ضد الجسد وهي الحرب التي لا يمكن لأي مخلوق فوق هذه الأرض أن يبرئ أمريكا فيها، من تهمة الشر المتعمد والواعي بل حتى من تهمة قيادة محور الشر في العالم.

من بين المعلومات التي تسربت من البنتاغون أن أمريكا ستستعمل في عدوانها ضد العراق قذائف اليورانيوم وهي قذائف استعملت في حرب الخليج الأولى، وقد اعتبرتها الأمم المتحدة يوم 10 سبتمبر 2001 من أسلحة الدمار الشامل. ومن يتعرف على تأثيرات اليورانيوم، سيدرك أنه سلاح الأشرار وسلاح أعداء الإنسانية بدون منازع، فاليورانيوم يصيب من يستنشق غباره بالالتهاب الرئوي وبمرض الأعصاب وبمرض السرطان القاتل وهو أيضا غبار يسمم الأجساد والعواصم ويحولها إلى مناطق ميتة، أي أنه غبار يضع الجثث بامتياز.

وإذا علمنا أن الجنود الأمريكيين أنفسهم لم يسلموا من الشر الأمريكي في حرب الخليج الأولى، فإن تقديرنا لحجم الاستخفاف بالجسد العراقي سيكون مضاعفا. ولقد ذكر البروفيسور دوج روكه رئيس مشروع اليورانيوم الناضب في وزارة الدفاع الأمريكية وهو بالمناسبة أحد ضحاياه أن تقريرا رسميا نشر في سبتمبر 2002 يقول إن مِن الجنود الأمريكيين من يعيشون حالة إعاقة وإن 8000 جندي قد ماتوا من جراء اليورانيوم. وأكد أيضا اختصاصي كندي أن بعض المحاربين الذين شاركوا في حرب الخليج الأولى سوف يموتون بالسرطان.

أما نحن الذين بدوننا لا معنى لابتكار قذائف اليورانيوم، فإن التقارير تقول إن 400 طن من غبار اليورانيوم منتشرة في الكويت والعراق وشمال السعودية وإن 100000 على الأقل من سكان البصرة أصيبوا بمرض السرطان.

ومثل هذه المعطيات تشير إلى غياب الأبعاد القانونية والأخلاقية والإنسانية في العدوان الأمريكي على العراق حيث أن الأمر لا يقتصر على ضحايا مدنيين وسقوط جنود بالمعنى المتعارف عليه، بل إنه علاوة على الجرحى والقتلى، هناك فاتورة بشرية أخرى ستلتحق بعد زمن قصير وذلك بعد أن يستبد السرطان بـ30% من سكان العراق، أي قرابة ثمانية ملايين عراقي، بالإضافة إلى أن بغداد والبصرة وكل المناطق التي ستتعطر بغبار اليورانيوم، سيحل فيها شبح الموت.

أليس استعمال اليورانيوم، في الصواريخ والطائرات والعربات، يمثل دليلا كافيا للتأكد من نزعة الشر الأمريكية؟

إننا في حرب لن تنتهي وإن اعلن كذبا انتهاؤها بعد أسابيع أو أشهر، فاليورانيوم الذي ستنشره الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في عواصم العراق سيواصل نهشه للأجساد العراقية العربية التي أرادت لها الرغبة «البوشية» أن تقتل بالسرطان الخبيث، وذلك بحجة تحريرها من نظام دكتاتوري، وهي حجة تشبه عذرا أقبح من ذنب. فهل سمعتم ولو على سبيل الدعابة، أن مرض السرطان، يحرر الأجساد؟! وهل يمكن لسذاجتنا المتراكمة، أن تصدق، أن ما يجري الآن هو حرب تحرير؟ والحال أن اليورانيوم يستهدف رئات العراقيين أي يستهدف التنفس العربي العراقي في أبسط مظاهره البيولوجية.