حقائق حائرة حول حرب دائرة

TT

اذا ما ابتعدنا عن فلسفة تغليب العواطف السائدة في شارعنا العربي، ومنهاجية تغييب العقول الرائجة لدى شرذمة من مفكرينا وقلة من مثقفينا وجمع من اعلاميينا وجل من سياسيينا واوقفنا توازيا تراثية نفض الغبار عن لوحات ويافطات مؤججة ومؤدلجة تم حفظها في الصناديق المعتقة والمغلقة بالضبة والمفتاح منذ حقبة الخمسينات والستينات لما علمناه من خطأ ذلك المسار الذي يدغدغ المشاعر ويرفع الآمال والاحلام الى قمم عالية تتسبب اليقظة المفاجئة منها الى سقوط مؤلم واحباطات نفسية غير حميدة العواقب، ومن ذلك سأخرج جملة من الحقائق لعلها تقلل من سوء الفهم الحادث مع بعضنا البعض في عالمنا العربي.

اولا: لقد كان بيد القيادة العراقية وبشكل سهل وبسيط ان تمنع سفك الدماء والموارد في حربها السابعة الحالية بعد حرب الاكراد الاولى (1970 ـ 1975)، ايران (1980 ـ 1988)، الاكراد الثانية الانفال (1988 ـ 1989)، احتلال الكويت (1990)، تحرير الكويت (1991)، حرب الجنوب وانتفاضة 14 محافظة (1991 ـ 1992)، حرب تحرير العراق (2003)، وذلك عبر العمل على تطبيق كافة القرارات الدولية التي وافق ووقع عليها النظام العراقي بدلا من التهرب منها كما اتى نصا في القرار 1441 الذي اجمعت عليه دول العالم.. ثم ما فائدة اسلحة ممنوعة يدمر الوطن لاخفائها بعد ان اثبتت تجارب 1991 والحرب الحالية انها لن تستخدم ضد القوى الدولية او اسرائيل، لقدرتها على الرد باكبر منها، فهل القصد من الاصرار على الاحتفاظ بتلك الاسلحة هو لاستخدامها مستقبلا وكالعادة ضد الجيران.. العرب والمسلمين؟!

ثانيا: اثبتت الحرب القائمة وقد وصلت الى مشارف بغداد ولم يبعد الا القليل منها كذب تقديرات «خبراء» العرب العسكريين ممن تحدثوا عن ضحايا بالملايين لتلك الحرب، بينما تثبت حتى الارقام العراقية ـ المبالغ بها عادة ـ بأن الضحايا لم يتجاوزوا العشرات وهو رقم محزن الا انه عدد لا يذكر مقارنة بالملايين الذين تسببت القيادة العراقية بقتلهم في السابق.

ثالثا: ان الطرف الوحيد الذي يجب ان يكون له القول الاول والاخير في هذه الحرب وشرعيتها وفائدتها مقارنة بضررها هو الشعب العراقي الصابر في الداخل و4 ملايين مشرد في الخارج لا متظاهرو «الويك اند» في اوربا وامريكا وغيرهما من دول الرفاه.

رابعا: لا يجب ان تكون هناك للحظة تهيؤات خاطئة حول النتيجة النهائية للحرب الدائرة بين اقوى دولة في العالم وأحد اكثر الجيوش ارهاقا وضعفا (بسبب الحروب العبثية التي يقاد لها). وأسوأ ما سمعته من توصيف مسببات النصر لدى القيادة العراقية قول الرئيس صدام لجنوده ان العراق يحتمل سقوط مائة الف جندي فهل تحتمل امريكا خسارة الف مقاتل. ومعروف رقميا على الاقل بان الدول الأقل سكانا هي الأكثر تأثرا بارتفاع عدد الضحايا وليس العكس، ولكنه الانسان الذي لا قيمة حقيقية له في عراق الرئيس صدام.

خامسا: ومن الاكاذيب الحديثُ عن امتداد لتلك الحرب وفرض الديمقراطية بالقوة على الدول الاخرى في المنطقة، والحقيقة ان الديمقراطية لن تطبق الا بعد سنوات عدة في العراق وذلك لعدم تأهل السكان لها وحتمية ان تأتي الصناديق بأغلبية متحالفة مع ايران هذه الايام..

سادسا: ومن المحزن قراءة الفتاوى المنفعلة والمستعجلة التي نصت على صليبية الحرب في وقت نجد فيه ان المعارض الرئيسي لها هو بابا الفاتيكان ومجلس الكنائس البروتستانتي في امريكا وبريطانيا، ومثل ذلك فتوى الشيخ الجليل الذي حرم على الكويت استضافة القوى البرية الاجنبية وكانت الطائرات الحليفة في اقلاعها المتواصل لقصف العراق تكاد ان.. تمس طرف ثوبه..!

سابعا: ومما عجبنا منه محطات اذاعة وتلفزة وفضائيات حكومية عربية تهيج وتحرض وتدفع الناس للشوارع وما ان ينزلوا حتى يجدوا قوات الامن في انتظارهم بالعصي وخراطيم المياه الحارة وحتى الرصاص الحي.. بعض حكوماتنا الثورية لا ترضى اضرار الاجنبي بشعوبنا بل تقوم هي وبكل وطنية بتلك الخدمة.. مجانا..!

ثامنا: عام 1991 واجه مواطنو الكويت ثقافة عربية مبتكرة هي ان بعض الاعلاميين والمفكرين العرب كانوا ضد الاحتلال، الا انهم قلبا وقالبا مع المحتل ولا يرضون بأي عمل يزيل احتلاله، وهذه الايام يواجه مواطنو العراق ومهجروه ثقافة جديدة من نفس الطغمة المفكرة ملخصها انهم ضد الظالم صدام، الا انهم في الوقت نفسه ضد اي عمل ينهي ظلمه!!

تاسعا: ان بقاء طبقة من مفكرينا ومثقفينا واعلاميينا وسياسيينا ينظرون ويروجون بشكل دائم ودون ان يرف لهم جفن او تحمر لهم وجنة للقضايا الخاسرة والامور الساقطة، يعني ان تبقى دولنا وشعوبنا ولأجل غير مسمى مفعولا بها لا فاعلة على الساحة الدولية، ولا شك ان من يقرأ كل يوم بيانات «المئات» من المثقفين العرب في هذا القطر او ذاك سيعتقد جازما بأننا اكثر أمم الارض علما وفكرا وفهما و.. وثقافة..!

عاشرا: ليس عجيبا كما يروج البعض ان تكون هناك بؤر مقاومة في بعض المدن العراقية من غير سكانها بل من مجاميع قدمت اليها من اتباع منضوي فدائيي صدام وحزب البعث العراقي ممن ربطوا مصيرهم بشكل نهائي بالقيادة العراقية، انما العجب ان تحتل بلد مساحته نصف مليون كم مربع ويقطنه 25 مليونا من السكان خلال ايام وبضحايا لم يتعدوا العشرات او المئات في وقت بلغت فيه نسبة القوات المهاجمة للمدافعة 1:4، بينما جرت العادة ان تكون تلك النسبة معكوسة لولا اقتناع الشعب بقضية تحريره.

حادي عشر: لا نعرف من يدير السياسة الخارجية والاعلامية للعراق الا انها بالقطع العدو الاول لمصالحه، فلم يكن هناك داع للخطاب المتشدد منذ اليوم الاول للأزمة ولم يكن هناك داع لاستخدام لغة الشتائم ضد الدول العربية جمعاء عبر اتهامها بانها اما متواطئة بشكل معلن او بشكل سري مع الاعداء او معادية لتطلعات شعوبها، ومثل ذلك معاداة امين عام الامم المتحدة واظهار الاسرى بشكل غير لائق.

ثاني عشر: ومثل ذلك لا نعلم من يدير السياسة الخارجية والاعلامية الامريكية التي فقدت قبيل نشوب الحرب دعم بعض حلفائها الاوربيين بمقولة اوربا القديمة وايران المؤثرة بالجنوب العراقي عبر ادخالها من دون داع بمحور الشر واستفزاز الشعب العراقي بكافة توجهاته ومعه القيادة السورية التي تحتضن كثيرا من فصائل المعارضة العراقية بدعوى الحاكم العسكري الامريكي وخسارة الدعم السعودي المؤثر بالحملة الاعلامية الظالمة عليها كما دخلت في اشكالات مع الجار التركي واحرجت الحليف الاردني بطلب مغادرة الدبلوماسيين الاردنيين.

ثالث عشر: اخيرا ما كان اسهل على الكويت قيادة وشعبا بعد تحريرها وتوقيعها المعاهدات الدفاعية مع الخمس دول العظمى ان تقتدي بجارتها الكبرى ايران وتنسى ما عانته من قتل وقمع ودمار سببه لها الرئيس صدام من منظور انه في النهاية يحكم العراق لا الكويت، ومن ثم ليقاسي الشعب العراقي المسلم ما يقاسي الى اجل غير مسمى من ذلك النظام وابنائه من بعده، ولنذرف بعد ذلك الدمع غزيرا على اخوتنا في العراق من دون ان نفعل شيئا، الا اننا ارتضينا ان نسخر ارضنا ودماءنا وسماءنا لأجل تحرير شعب العراق العظيم.. ومن اجل العراق الكبير وشعبه ومستقبله كان.. هذا القليل.