حاصل الجمع والضرب

TT

لا علاقة للحرب الحالية بالحرب الماضية. المفارقات كثيرة والمشابهات نادرة والمقارنة لا معنى لها. واذ تقترب الحرب من ختم اسبوعها الثاني، يبدو ان جميع الحسابات العسكرية والسياسية قد انقلبت على نفسها. فالرجال الذين اعلن في بداية الحرب انهم قتلوا او فروا، لم يقتلوا ولم يفروا، وانتفاضة البصرة التي توقعها البريطانيون لم تنتفض، و«شيعة العراق» الذين كان يفترض ان يقوموا على النظام قاتلوا معه، والجيش المعوز والمتذمر الذي كان يفترض ان يستسلم، ارتدى الثياب المدنية ليقاتل.

الأكثر مفاجأة في كل الحسابات، هو ان المخيمات التي اقيمت على حدود العراق لاستقبال الهاربين والفازعين، ظلت خالية. والعراقيون الذين فروا الى الاردن في الحرب الماضية يعودون الآن في سيارات عمومية تتقاضى اسعارا خيالية تفرضها «سوق الحرب»، التي هي سوق الموت اوالحياة. اذن، هي حرب طويلة. وهذه المرة يخوضها قائد الجبهة العراقية وفقا لاحكام القتال وليس لطربيات المنازلة. فهو لم يرسل جنوده الى عراء الصحراء لكي يضعهم في مواجهة اقوى قوة عسكرية بل ارسلهم الى داخل المدن، يناوشون ويكمنون وينشرون الرعب بدل ان يرعبهم شعار المستر رامسفيلد ويروّعهم. وهو لم يطلق النار في اتجاه القاذفات بحيث تعرف مواقع الرادار وتصلها نارا حامية، بل تركها تبحث على الخرائط عن تلك الخرائط التي يريد الجنرال كولن باول ان يعيد رسمها.

كل شيء الآن خاضع لاعادة النظر. القوات التي قيل قبل اسبوع انها على بعد 80 ميلا من بغداد لا تزال بعد اسبوع على بعد 80 ميلا من بغداد. والقوات الاضافية القادمة من اميركا ليس معروفا ما اذا كانت ستخصص لحماية مؤخرات الفرق المقاتلة ام لدعم طلائعها. والعسكريون يقولون ان كل فرقة من 20 ألف رجل تحتاج الى 2000 طن من الاغذية كل يوم. وهناك 300 الف جندي في معركة العراق. جربوا مهارتكم الحسابية.

كان يفترض ان تفتح الطريق الى بغداد جبهات كثيرة. وقد نشرت الصحف مع بداية الحرب صورا بيانية مفصلة ومزينة بالاسهم، تبين انقضاض القوات من اطراف مختلفة في اتجاه العاصمة. لكن بعد قرابة اسبوعين ما يزال الامر مقتصرا على جبهة واحدة. وما يزال الموقف التركي غامضا او غارقا في الوصول الى صفقة ما. وما تزال حدة الرأي العام العالمي ترتفع. والمعارضة تتسع. وعمليات الاستقطاب ترتفع. وشكرا دائما لدبلوماسية المستر رامسفيلد صاحب السرعة القياسية في صنع الخصومات والعداوات. وهذه الدبلوماسية هي التي نقلت موقف سوريا من دعم العراق ومساندته الى قول الاستاذ فاروق الشرع امام البرلمان ان «من مصلحة سوريا ان تندحر القوات الغازية». وهي التي حركت موقف ايران من المتفرج المنتظر الى المراقب القائل بأنه سيرفض اي نظام في بغداد يعينه الاميركيون. وهي التي جعلت طهران ايضا تتمهل في الايحاءات الى جنوب العراق.

الحروب عملية حسابية قبل اي شيء آخر. يرسمها مهندسون وخبراء وعلماء في الجغرافيا وفي الارض وفي طبائع الشعوب ونفسياتها وظروفها. وحتى الآن ظهر ان جميع الحسابات الاميركية خاطئة على كل المستويات، منذ الضربة الاولى على مزرعة ابنة صدام حسين، التي توقعت السي. آي. إيه ان تقضي على ثلاثية العائلة الحاكمة في العراق، وان تنهي الحرب قبل ان تبدأ. لكنها بدأت واشتعلت وجورج بوش يطلب لها 75 مليار دولار اضافية. واللجنة الاميركية المكلفة دراسة «اعادة اعمار العراق» تقول ان ثمة حاجة الى 20 مليار دولار اضافية كل عام في سبيل المشاريع وتكاليف اقامة 75 ألف جندي اميركي في بلاد الرافدين.

لماذا 75 الف جندي؟ لا ادري. ربما لمشاريع الري، او الانارة، او التعليم وكلما فتحت صفحة اخرى بان هدف آخر او ظهرت نية اخرى. واذا كان هذا هو الامر الاقسى وسط هذه المشاهد، فان الامر الأكثر حزنا ليس فقط مشاهد الموت التي تعرضها علينا الكاميرات من العراق هذه الايام، بل تلك الصور غير المتعمدة عن حال الفقر والعوز في احد اغنى بلدان الارض. وامس كتب الزميل سليمان نمر في رسالة الى «الحياة» من صفوان ان الصحافيين يبحثون عبثا عن فندق، من حدود الكويت حتى الناصرية! ان صور الافتقار الى النمو بعد كل هذه السنوات النفطية لا تقل اسى عن صور الحرب والدمار ووجوه العراقيات المليحات بـ«الخمار الاسود» وهن يبحثن عن الملاجئ والملاذات. وخلفهن اطفالهن.