حملة أميركية موحلة جداً

TT

عندما تنجح الحملة الاميركية البريطانية عسكرياً، سيكون على الارجح مصيرها السياسي قد حُسم كهزيمة تمهد لانعكاسات سلبية. كانت الفرصة الذهبية في نجاح عسكري وسياسي مشترك قد تبخرت اثناء الايام الخمسة الاولى التي لم توفق في التوصل الى انهيار للقوات والمقاومة العسكرية العراقية، او الى تطابق بين النظرية الدعائية التحريرية للشعب العراقي وبين ما حل بالناس من تجويع وتعطيش وتطفيش واسالة دماء.

اثناء الاسبوع الاول تأكدت الشكوك بأن ما يتم التخطيط له هو احتلال عسكري سيفرض على العراقيين بكل الطرق. واي احتلال هو في واقع الامر يمهد لامرين: الاول طمع الغزاة في الاستفادة والاستغلال، والثاني مقاومة حتمية من اهل البلاد. وفي حالة العراق فإن النفط (وصدام) هو سبب بلائه السابق واللاحق، ولو لم يكن هناك نفط يستغل وينهب لما غزت واشنطن البلاد والعباد مهما كان صدام ديكتاتورياً. اما العراقيون، فلا يوجد في تاريخهم وطبيعتهم ما يوحي بأنهم لن يقاوموا، بل ان ظروف وتركيبة البلد تحتم مشاكل اضافية لكل من يريد حكمها. واذا كانت واشنطن ولندن تحلمان فعلاً بنظام ديمقراطي للعراق على الطراز الغربي، فانهما عاصمتان لدول مريخية لا تعرفان ظروف الكرة الارضية. واذا كان بوش وبلير يظنان بنجاح أي حكم اجنبي في بغداد فإنهما ليسا من هذا العصر، بل حضرا من الماضي في مركبة زمنية لم تطلعهما على تجربة التاريخ اثناء الرحلة.

بدون شك ان تعداد وتسليح القوات الاسرائيلية يفوق مثيله الاميركي البريطاني في العراق، كما ان ظروف تمركز الجيش الاسرائيلي وخطوط امداده ومعلوماته الاستخبارية كلها افضل مما لدى الاميركان والانجليز في العراق. رغم ذلك نرى فشلاً اسرائيلياً ذريعاً في تثبيت الاحتلال ضد ثلاثة ملايين فلسطيني في مساحة جغرافية ضيقة. والثابت الان ان تكلفة الاحتلال عالية على اسرائيل وتؤثر على اقتصادها سلباً ولم تكن لتثبت لولا الدعم الاميركي. والى جانب هذا فإن الاميركيين والانجليز اكثر انسانية من الاسرائيليين، وشارعهم اكثر نشاطاً، وديمقراطيتهم اكفأ مما لدى اسرائيل. وهذه كلها عوامل مضادة للاحتلال، يضاف لها تأهيل الشعب العراقي الذي انتج صناع صواريخ وكيماويات وبيولوجيات.

هذه المقارنة فرضتها حالة التشابه الاحتلالي، واشياء اخرى منها: ان الاميركيين يتلقون شروحات اسرائيلية عن كيفية ادارة حرب المدن، والتصدي للمقاومين، وادارة الناس تحت الاحتلال. كما ان الجنرال جاي جارنر القابع في الكويت بانتظار الانتقال لادارة بغداد والعراق كرئيس لحكومة احتلالية، هذا الجنرال على علاقة جيدة مع اسرائيل، وقام بزيارات إليها ممولة من منظمات يهودية تنشط التفاهم الاسرائيلي مع ضباط اميركيين، ومواقفه المضادة للعرب مشهودة ومثبتة ومعلنة.

الوضع الاحتلالي، المحكوم عليه بالفشل، سيأتي اذا نجحت الحملة العسكرية اصلاً واذا سارت حسب المخطط النظري سياسياً وعسكرياً. لكن ما هي المؤشرات الحربية اثناء اسبوعين من القتال، وبماذا توحي مستقبلاً؟

في اليوم الثامن اعلن بوضوح ما كان معروفاً قبل الحرب، ان الخطط التي رسمها رامسفيلد محكوم عليها بالفشل. هذا الحال على علاقة بصراع اميركي داخلي في الوسط العسكري. وزير الدفاع يؤيد نظرة شركات السلاح بضرورة الاعتماد على التقنية الحديثة والاقتطاع من تعداد واموال القوات التقليدية. حب رامسفيلد لهذا التوجه يخدم رؤيته لحروب استعمارية مصلحية مستقبلية سريعة الحسم بأقل خسائر بين الاميركيين الذين اصبحوا لا يتحملون موت جنودهم في حروب غير دفاعية.

الحرب النفسية الهائلة قبل المعارك، والاستفادة من الدبلوماسية في تدمير اسلحة وصواريخ عراقية وبالتالي الحد من هيبة النظام، لم تكن كافية للانهيار العراقي السريع امام نظرية رامسفيلد الذي رفض ارسال قوات مشاة ومدرعات كافية، واستغنى عن دعم بشري محتمل من دول مؤهلة للتحالف ولكن بشروط سياسية.

النتيجة ان اليوم العاشر من القتال شهد تباطؤاً في التقدم إلى بغداد اذ لم يعد من الممكن تأمين خطوط الامداد لجيوش لا تشرب من النهر. اما الطائرات فقد تم تقييد اهدافها سلفاً وانحصرت ضد النظام، واصبحت كل محطة تلفزيونية تشكل محكمة تتساءل عن الضحايا المدنيين. وبالطبع كل حادث يصيب المدنيين يعقد افاق حكم العراق مستقبلاً ويحرك الرأي العام العالمي لوقف الحرب وسحب القوات. وكما في حالة اسامة بن لادن ومنظمة القاعدة، اصبح من المستحيل الانتصار طالما الرئيس صدام على قيد الحياة، وحياة البشر في يد خالقها.

الخسائر الاكبر للغزاة حتى الان كانت هي ما اوقعوه بأنفسهم، والخسائر التي اوقعوها بالمدنيين، علماً بان العراق لا يعلن عن خسائره في الجند. الدبابات العراقية والجيش النظامي لم يظهر على الساحة بكثافة، ويقتصر دور هؤلاء على الردع نفسياً. بمعنى اخر طالما لم يستسلم الجيش ولم يُدمر ويقتل ويهان بأسلوب 1991، فإنه يشكل خطراً يحد من تقدم الغزو. وربما لذلك لا نرى الكثير من الاثار لهذا الجيش في المعارك اذ يرفض ان يُستدرج بعيداً عن المدن وتحديداً عن بغداد. وقد تكون قصة توقف تقدم الغزو لالتقاط الانفاس والامدادات، قد تعكس حقيقة، ولكن ربما تحتوي على خدعة ايضاً لاستدراج الاليات والجيش العراقي للعراء في الصحراء كصيد سهل لاسلحة الجو.

في اليوم العاشر أعلن عن عملية فدائية استشهادية قام بها ضابط عراقي، وقتلت اميركيين ومنفذها. كان المتوقع بعد تلك المدة وفي ظل تمركز القوات النظامية العراقية، والانتشار الطويل للقوات الغازية، كان المتوقع ان تنشط عمليات لقوات خاصة مدربة سلفاً لمواجهة الزحف الذي كان متوقعاً منذ زمن. اذا كان من الحيطة عدم الانسياق للاستدراج في العراء، فأين نشاط القوات الخاصة ضد خطوط الامداد؟ اثناء حرب رمضان 1973 احرز العرب انتصاراتهم، وخصوصاً في جبهة سيناء المشابهة لظروف العراق، احرزوا النصر عبر تأمين دفاعات جوية فعالة، وايضاً بتنشيط مجموعات صغيرة جداً مسلحة بصواريخ مضادة للدبابات ودمروا عبر كمائن بسيطة خلف خطوط العدو مئات الدبابات.

مئات الطائرات التكتيكية والعمودية تحلق على ارتفاعات منخفضة سهلة الصيد من المضادات المحمولة على الكتف، والاف الاليات منتشرة في الصحارى وتستعمل خطوط الطرق العراقية التقليدية، ولكن الخسائر محدودة جداً، والعمليات يمارسها شبان القبائل وفدائيو صدام. باختصار ما زال العراقيون ككل يفكرون بشكل دفاعي بحت اما لانهم لم يستعدوا لهذا الشكل من العدوان، او انهم بالفعل في مرحلة امتصاص الصدمة قبل التحول للهجوم، او على الاقل للصيد النشط، او طبعاً للانهيار. الثابت ان الجيش لم ينهر للآن، ولم يدمر، ولم يهاجم بعد. بل هناك بضع عشرات من الطائرات القتالية والعمودية المسلحة ما زالت في مأمن ولم تدخل للقتال. هناك صمود عسكري بحيث لم تسقط أي مدينة بشكل سريع وكامل طوال اسبوعين، ورغم ادعاءات احتلال ام قصر والفاو، فالاولى فيها مقاومة، والثانية ما زالت تطلق صواريخ على مراكز اميركية في الكويت. هذه الحرب ستكون على ما يبدو طويلة ومليئة بالمفآجات وها هي بوادر لتوسعها على دولتي جوار هما ايران وسورية، وبالتالي اعطاء دور لاسرائيل، والله وحده يعلم اين يتوقف التمدد وماذا ستكون النتائج، فاستعدوا لكل الاحتمالات.