خمسة أسباب

TT

دأبت خلال العقدين الماضيين على متابعة النتاج الفكري والثقافي المغربي بالكثير من الشغف. وغالبا بشيء من الحكم المسبق. فقد نظرت الى كل شيء مغربي باعجاب. واحببت مطعما صغيرا على شاطئ الدار البيضاء مع انني قادم من بلاد المطاعم.

وتغافلت عما هو نافل في كتابات محمد عابد الجابري لان كثيره قيَّم. وقرأت الصحف المغربية باهتمام مع انها انتقلت من العمق والهم الوطني والانساني الى المتفرقات واخبار المحاكم والمخادع.

كنت اكن اعجابا خاصا للمفكر الهادي المنجرة. وكنت ارى فيه صورة المثقف المنخرط باستمرار والمندفع دون تراجع او خمول. وعندما التقيته في لندن قبل سنوات رأيت شبها كثيرا بين صورته الفكرية وبين حضوره الشخصي. ويقع المفكر او المثقف في ازمة وجودية كبرى عندما يصل الى مرحلة يخلط فيها بين حماسه وبين قناعاته. او عندما يضع القناعة امامه ثم يروح يبحث لها عن دعائم واسانيد وحيثيات. وقرأت امس في «الخليج» مقابلة مع الدكتور المنجرة شعرت من خلالها وكأنه كان على عجل، ما بين موعدين. او ما بين محاضرتين. او ما بين تظاهرتين. ويبدو من كلام المهدي انه هو الذي تولى توقع كل شيء. «لقد قال بوش الاب في اغسطس 1990، لا يمكن ان نسمح لاي كان ان يمس قيمنا ونوعية حياتنا. وقتها توقعت ان تقوم حرب، وهو ما حصل فعلا».

يا للهول. لقد كان هناك اعتقاد ساذج حول العالم بان الحرب قامت لان العراق احتل دولة نفطية رئيسية وحاول تغيير خريطة العالم العربي ولذلك جاءت 33 دولة تخرجه من الكويت. لكن السبق هنا هو ان الذي توقع الحرب هو الدكتور المنجرة: «توقعت ان تقع حرب، وقد وقعت فعلا». وما هي اذن اسباب الحرب الحالية؟ النفط؟ لا. الثروات الطبيعية؟ لا. موقع العراق. لا. لا. لا. هناك خمسة اسباب لهذه الحرب، اولها ان اميركا، باعتبارها القطب الوحيد، «لم تستسغ ان تكون في منطقة الخليج العربي، بامكاناته البترولية وحيويته الاستراتيجية، قوة مثل العراق». اذن، اميركا «لم تستسغ» قوة مثل العراق فقررت الغاءها. والسبب الثاني، من حيث الاهمية، ان العراق ينافس اسواق اميركا التكنولوجية ويهددها. ايه نعم. هذا هو السبب الثاني. السبب الثالث، دعم اسرائيل. لا نقاش. السبب الرابع «هو ان الغرب ادرك قوة العراق الحضارية كمهد للثقافات وارض للذاكرة العربية والاسلامية، وهو ما يهدد اطماع الغرب في سيادة (سيطرة) ثقافته وقيمه»! الحقيقة انني لم افهم هذا المقطع بالذات: فهل يمكن لكل القوى العسكرية في الارض ان تلغي عبر الحروب ذاكرة الشعوب والامم؟ وهل يمكن لاميركا، او الغرب اجمع، ان يزرع حضارات اخرى في بلاد ما بين النهرين وارض جلجامش؟

يعيدنا الدكتور المنجرة دائما الى كتابه «الحرب الحضارية الاولى» الذي توقع فيه كل الاشياء التي نراها الآن. تلك هي خاصية المفكرين و«علماء المستقبليات» كما يصف المفكر المغربي. وعندما يقرأ المرء «الاسباب الخمسة» يتساءل، هل حقا يمكن ان تقوم مثل هذه الحرب من اجل مثل هذه الاسباب؟ وهل هي حقا حرب «مقدسة» يخوضها جورج بوش الابن بعد جورج بوش الاب من اجل زرع الافكار و«القيم» الغربية؟

لقد حاول الفرنسيون ذلك من قبل في الجزائر. وجرَّب الايطاليون ذلك في ليبيا على نحو همجي وحشي. وكانت النتيجة دائما غرق الشعوب في قيمها وتراثها وعقيدتها. ومنذ ان شنت الولايات المتحدة الحرب على الارهاب حدث تحول خطير في العالم الاسلامي تدرك اميركا مداه قبل سواها.

جورج بوش الابن (مثل الاب) يقود حربا اقتصادية نفطية استراتيجية شعارها المعلن الديمقراطية وآخر همومها نوعية او طبيعة الحكم في العراق او في اي مكان آخر. وقضية المستقبل بالنسبة الى اميركا ليست ما ينتجه العراق من تكنولوجيا، فالصين اليوم طاحونة تفرِّخ الآلات مثل مزارع الدجاج. القضية هي ما ينتجه ـ او ما لا ينتجه ـ العراق من نفط ـ وما ينتجه من تيارات سياسية في الجنوب وفي الشمال، مع ان الادعاء هو ضرب التيار العلماني الحاكم في الوسط. وحرب العراق اكثر تعقيدا بكثير من حصرها في خمسة اسباب مرتَّبة بالاولويات ومبسَّطة بالتدَّرج. لكن ربما هذا ما يحدث عندما يكون المفكرون العرب على عجل. بين موعدين. او بين حربين. وربما اكثر، كما يتوقع المهدي المنجرة.