بورصة الدم

TT

مع وصول المعارك إلى بغداد تجد أميركا نفسها أمام خيارين : إما التضحية ببعض جنودها الاقتحاميين لإنجاز المهمة وتوفير أرواح مئات وربما آلاف المدنيين، أو إبقاء مقاتليها متمترسين في طائراتهم وخلف دباباتهم يطلقون منها نار الجحيم على كل حي حتى يخمد آخر حجر في دار السلام، ويدخلونها «منتصرين». وتبيّن أن إدارة جورج بوش فضلت في جنوب العراق سياسة الأرض المحروقة والبشر المتفحمين، على المجازفة بخسارة «الانتخابات المقبلة». وهو أمر لا يتنافي فقط مع الأخلاق العسكرية أو روح الفروسية القتالية، التي دفنتها الامبراطورية العظمى منذ استخدمت قنبلتها الذرية، ولكنه يتعارض كلية مع الادعاءات الوقحة التي تشهرها في وجه من يريدون أن يتقاسموا معها قالب الجاتو مدّعية «ان من يذرف الدماء هو صاحب الحق في الإمساك بزمام مصير العراق». وإذا كان الفوز في المكاسب يأتي تبعاً لكمية الدماء المهدورة، فالقتلى الأميركيون يشكلون نقطة في بحر الدماء العراقية التي سالت وما تزال، إضافة إلى أن معظم هؤلاء المضحى بدمائهم فداء «لحرية العراق» قتلوا «بنيران صديقة» على ما نعلم. وكلام خبيث عن الدماء، بهذه الطريقة الالتفافية، يضمر عنصرية بغيضة. فالولايات المتحدة القادرة على الأذى، والتي أدمنت لغة البورصة، تفترض أن أسهم الدم الأميركي هي الأغلى وتستخف حتى بالقتلى من البريطانيين الذين وضعتهم في الصفوف الأمامية بدعوى معرفتهم الاستعمارية القديمة، وتترك بلير يستجدي حصة شركاته الغاضبة ولا من مجيب، فيما ترى أن الأرواح العراقية ذهبت «فرق عملة» ولا وزن لها بالحسابات الغنائمية. وهكذا يحق لها أن تأتي بجنرالاتها المتصهينين وتنصبهم على الوزارات والسلطات للفترة التي «تراها مناسبة». وها هو نائب وزير الدفاع، الصهيوني الهوى بول ولفويتز يبشرنا بأن وجوداً عسكرياً أميركياً في العراق قد يكون طويل الأمد على غرار ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. علماً بأن بوش كان قد أعلن في مارس الماضي أن «القوات الأميركية لن تبقى يوماً واحداً في العراق بعد انتهاء الحرب واستتباب الأمور».

والأدهى أن هذه الحرب الاستعمارية الدموية «الوقائية»، شنت لغايتين معلنتين بحسب المسؤولين الأميركيين: إزالة أسلحة الدمار الشامل والقضاء على النظام الحاكم. ولغاية اللحظة لم يعثر أحد على الكنز التدميري المفقود، ولم يقتل صدام حسين الذي لا يمكن أن يفهم عاقل كيف له أن يتنزه في الطرقات لساعات وأمام كاميرات التلفزيونات، وفي وضح النهار، ولا يتصيده فخر الأجهزة التجسسية في العالم، الذي يباهي بأنه يرصد دبيب النمل؟! ثم أننا رأينا وزراء يصّلون في المساجد، وشاهدنا وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف، ولمرات كثيرة، يجري مقابلات على الهواء في الشوارع، وخلفه معالم بينة لبغداد، وفوق رأسه تتنزه الصواريخ والطائرات ولا يبدو أنها تستهدفه، فماذا تريد أميركا تحديداً؟ وهل يناسبها أن تدمر أكبر قدر ممكن من العراق كي ينتعش مقاولوها، الذين سيحتفلون بورشات الإعمار ويتكومون على آبار النفط كما الذباب على الحلوى؟!

بإمكانك أن تعرف كيف تبدأ الحرب ومحال أن تعرف كيف ستنتهي، يقول ذلك كل العالمين بعلوم الحروب. لكن الخطط الاستباقية الأميركية تحذر هذا المنطق القدري، لذلك تتلقح ضده حين تعلن عن سقوط مطار العاصمة وتغير اسمه قبل أن يسقط. وتقول ان دباباتها وصلت الى وسط بغداد وهي ما تزال في الضواحي. وتتحدث عن موت صدام قبل أن تبدأ المعركة، وتتعاقد مع الشركات المستثمرة للأرض التي لم تستعمرها بعد، وتشكل إدارة انتقالية حاكمة جديدة في ميناء أم قصر، تدار بالريموت كونترول من البنتاغون، رغم أن حكام بغداد ما يزالون على كراسيهم، وتعلن النصر وتحقيق الأهداف ولم نر أياً منها قد أنجز، معتمدة على قصر الذاكرة ومكر النسيان، وكأنما الغرض كان مجرد اجتياح أراضٍ وقتل وسفك وتصوير لعراقيين يركعون على حواجز أبناء العم سام. هذه الروح المرعبة التي تعتمد منطق فرض الوقائع قبل أن تقع، والتعامل مع المستقبل بصيغة الحاضر، وما يمكن أن يحدث كأنه حصل، ولم يبق سوى التسليم، ستخيب المراهنين على دور إيجابي لهذا الاستعمار المبتكر، لا في أهدافه، التي ينتصر ولو لم يحققها، مثل القبض على بن لادن في أفغانستان، أو العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، وإنما أيضاً في قدرته على تجاوز المساءلة باختراع قضايا متجددة والتسويق لها وإلهاء الرأي العام بها، وفي استخدامه لكل هذه الوسائل مجتمعة لدحض محاولات فرملته، أو النيل من بلوغه أهدافه غير المعلنة.

وليعترض على هذا النهج أعضاء حلف الناتو ولتلتحق بهم دول عدم الانحياز ومجلس الأمن، والجمعية العمومية إن أحبت، وليحتج الزعماء العرب ما شاءوا، وليجتمعوا ما حلا لهم الاجتماع، وليصدروا ما يروق لهم من البيانات، وليتظاهر كل سكان الكوكب، ولينتحب المعارضون العراقيون لأنهم أقصوا عن الساحة وهمشوا رغم أن معارضتهم استغلت إعلامياً بمنتهى البراعة، وليحبط بعض الديمقراطيين العرب الذين علقوا آمالهم على تمثال الحرية الأميركي، ونسوا أنه هدية فرنسية للولايات المتحدة الأميركية، فإن الأميركيين بعد أن ينتشوا بكأس الانتصار العظيم الذي يريدونه لهم وحدهم، ويلقنوا كل خارج على الطاعة درساً في التركيع والتجويع، من خلال النموذج العراقي، لن يأبهوا كثيراً للأصوات «الناشزة» التي لم يسمعوها قبل استيلائهم على أهم قاعدة شرق أوسطية لإطلاق مشاريعهم الاحتوائية المستقبلية، فما بالك وقد تربعوا على بئر «مجنون» النفطي الذي يغلي بالطاقة، وأخرسوا النبرة الأوروبية التي حاولت تعكير صفوهم، وقلموا أظافر روسيا، وأهانوا تركيا وهددوا جيران العراق؟ أوليس محقاً الرئيس الإيراني السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني حين قال: «إذا كان حزب البعث عقربا فإن الأميركيين أفعى مجلجلة»؟!