فلسفة الحرب

TT

في عام 482 قبل الميلاد كتب هرقليطس فلسفته عن الحرب أنها (ربة الأشياء) فهي التي تفرق الآلهة عن البشر، والفيصل بين الحرية والعبودية. والكون يقوم على الصراع والصيرورة. ولا يضع إنسان قدمه مرتين في نفس النهر. وفي هذا الوقت اندلعت ثورة في (بابل) ضد الملك الفارسي (اريوس الأول) فسحق الانتفاضة ومسح دولة بابل من التاريخ ودخل معبد إلههم (مردوخ) فدمره تدميرا.

وبعد مرور 25 قرناً تندلع الحرب على أرض (بابل) ولكن بفلسفة جديدة سوف يصاب هرقليطس بالدهشة لو بعث من مرقده فرآها. فلو أرادت أمريكا في حرب 2003 أن تحرق فرق الحرس الجمهوري وحمورابي ونبوخذ نصر وكامل سكان العراق من الحلة والسماوة وحتى نينوى وخرمال خلال ساعات وتحويل كل شي إلى رماد نووي لفعلت ولكنها (لا تستطيع).

وهنا تحدث (مفارقة) عجيبة في تاريخ الجنس البشري أن من (يمتلك) قوة (لا يستطيع استخدامها. وبعد أسبوعين من الحرب يتم الإعلان عن مقتل 250 مدنياً يعتذر عنهم في الوقت الذي قتلت قاذفات الحلفاء في مدينة درسدن الألمانية لوحدها في الحرب العالمية الثانية 200 ألف مدني بدون اعتذار.

وهذا اللون من (المفارقة) يسجل مرة أخرى أن (العلم) يمشي إلى الأمام باستخدام أحدث التقنيات. في حين أن (الحرب) تتراجع إلى التقنيات (المتخلفة) من الطاقة النارية. فلا تستطيع أن تستخدم الأسلحة الاستراتيجية، كما فعل الطب، والجراح الذي لا يستخدم جراحة المناظير يعد من المتخلفين. أما الحرب فتبقى حبيسة الطاقة النارية بدون الإفلات منها.

والسبب في هذا (الفراق) بين (امتلاك القوة) و(عدم التمكن من استخدامها) يرجع إلى ثلاثة أمور:

(1) الرأي العام العالمي بمن فيه الأمريكي الذي لا يسمح بإبادة شعب كامل بالسلاح النووي.

و(2) التقنيات الجديدة من تطور (الانفوميديا) اندماج المعلومات بالإعلام. ويمكن الآن رؤية ما يحدث داخل العراق على الرغم من أنف طاغية دجلة. ولم يعد ممكناً حصد عشرين ألفاً من سكان مدينة. أو رش الكيماوي على الذباب البشري بدون أن يعرف الناس في كل مكان. ولو انتظرت المعارضة وتسلحت بالوعي التاريخي لسقطت تفاحة السلطة ناضجة بيدها. وهذا يشرح لماذا كان الوعي (مقدساً)؟

و(3) الأمر الثالث هو تشكل عقل جماعي إنساني فالناس تتظاهر في كل مكان في العالم، وتغني في سان باولو في البرازيل وتهتف في الساحة الحمراء وتيانامن. ويصرخ الممثل في حفل أوسكار «ارجع إلى بيتك يا بوش». ويقول الطفل في بريطانيا بوعي وإصرار «نحن نخرج (ضد الحرب) وليس من اجل (صدام)».

ولكن مشكلة إيقاف الحرب معناها المحافظة على امبراطورية صدام قرناً آخر من الزمن كما حكم (هولاكو) العراق مائة عام باسم العائلة الأليخانية. كما أن استمرار الحرب إفلاس أخلاقي مثل الطبيب الذي يريد معالجة مريض اللوكيميا بجراحة تقتله.

وأنا متيقن أن هناك من عصابة صدام من يقول له حاليا: أيها القائد المهيب افتح عينيك واعرف قدرك فأنت لم تعد زعيم الأمة العربية بل أصبحت زعيم العالم أجمعين. وهو الآن يفتل شواربه الستالينية وينفخ في سيجاره الكوبي الغليظ ويتأمل الأمساخ البشرية حوله تهتف «بالروح بالدم نفديك يا صدام»؟! ويهرع (المجاهدون) المغفلون ليدافعوا عن نظام ميت كما فعلوا من قبل في حرب أفغانستان عندما خاضوا حربا أمريكية بعباءة إسلامية. ويصدر الفتاوى الدينية فقهاء يأخذون رواتبهم من (الطاغوت) ينتمون إلى العصر المملوكي أيام السلطان (برقوق) أن القتال إلى جانب صدام جهاد في سبيل الله وبينهم وبين الجهاد مسافة سنة ضوئية.

إن (الرأي العام) الأمريكي لا يتحمل الخسارة الكثيرة في صفوف القوات الأمريكية. وكلمة (كثيرة) هنا ليست (58) ألف جندي يقتلون في خنادق الحرب العالمية الأولى بقيادة (كيتشنر) تحصدهم الرشاشات الألمانية في 12 ساعة ولا يعرف الرأي العام البريطاني عنهم شيئا، فقد مضى ذلك الوقت، واليوم يحاصر الرأي العام الجنرالات بالأسئلة المحرجة كيف تقتلون الأطفال؟ حدث هذه خطأ! كيف تقتلون المدنيين؟ نحن نأسف ونعزي الأهالي العراقيين!

إن مراهنة صدام على الرأي العام العالمي كبيرة فهي أثقل في الميزان من كل (خرافة) أسلحة الدمار الشامل التي كان يتلمظ لاقتنائها. وكان يمكن أن يخوض كل الحرب بدون حرب وسلاح. ولكن كيف يؤمن بالسلام من نشأ في صفوف البعث الفاشي وتدرب على القتل منذ نعومة أظفاره، وقتل وزير الصحة بيده عندما ورط وزراءه في سؤال: «أن الخميني عرض وقف الحرب مقابل أن أتنحى؟» فنصحه وزير الصحة أن يتنحى مؤقتا إلى حين زوال العاصفة، فساقه بيده إلى غرفة جانبية فأسنده إلى الحائط وقتله بيده. وهو الذي صفى معظم الكادر الحزبي كله في حفلة إعدام جماعية بيد فريق منهم وهو يصورهم بالفيديو كما يصور حفلات ميلاده بكعكة وزنها ثلاثة أطنان. وهو الذي قتل من الأكراد مائتي ألف تحت اسم سورة قرآنية (الأنفال) وهو الذي سمم الإيرانيين في الفاو بالغازات السامة وبتدخل أمريكي إلى جانبه تحت اسم جملة من المصحف الشريف ( العابدات القانتات).

إن كل القتل يأخذ مشروعيته من القرآن مثل مسجد الضرار الذي أمر الله نبيه بهدمه. واليوم يقوم المجرم باستخدام الورقة الدينية كما فعل (ستالين) في الحرب العالمية الثانية فأطلق أجراس الكنائس بعد أن شنق القسس وحول أماكن العبادة إلى اصطبلات. فهذا هو صدام الذي يهرع إليه (المجاهدون) وتطلق له (الفتاوى) ويبني عرشه المثقفون والمحطات الفضائية.

إن كل ما أفسده الدهر يصلحه العطار (صدام) بكلمة.

ومن أعجب الأمور ظهور الجنرالات العراقيين وهم يؤمون المساجد ولم يعتادوا في حياتهم سوى عبادة الرئيس، أو أن يعتقد رجال حزب البعث بالبعث وهم لم يعتقدوا يوماً بالبعث، وكل تعاليم الحزب تنفي البعث والنشور. أو أنهم يعبدون الله وهم الذين نشأوا على عبادة الثالوث المقدس (الوحدة والحرية والاشتراكية) وهي في الواقع (الطائفية والاستبداد والفقر). أو أن توضع كلمة الله على العلم وليس هناك من إله سوى فرعون. مع ذلك فقد كتبت كلمة الله بهمزة (ألله؟) مما تفيد عكس معناها؟. والواقع لا يأبه للشعارات بل الحقائق.

ومن أجمل ما فعل التحالف مع دخول العراق في حرب 2003م أنه أزال رموز الوثنية عندما صادر التاريخ شخص باسمه فاستبدلوا اسم المطار (مطار صدام) باسم إنساني: «مطار بغداد الدولي» وحيثما دخلوا مزقوا صور الوثن وحطموا اصنامه.

وعندما تتهيب أمريكا من استخدام السلاح الذي ينهي الحرب في ساعات فإنه يحكي هذا التطور الخفي في استخدام القوة. وأن تغييرا (نوعياً) في (منظومة الحرب) قد حدث. وأن قوة جديدة برزت إلى الساحة ليست بالأسلحة بل بالكلمة خلال المظاهرات والمناقشات في المحطات الفضائية. وهو الذي يعيق تقدم القوات الأمريكية في العراق. فهذا الشيء الجديد القديم هو البذرة التي زرعها الأنبياء وبدأت تطلع من التربة في نبتة غضة طرية لم تستو على سوقها بعد وتشق طريقها بكل زخم الحياة.

واليوم لم يبق في العراق إلا أفعى الأناكوندا وأمساخ من البشر يصفقون وقرود تحتاج إلى إعادة تأهيل نفسي لردها إلى الحظيرة الإنسانية. وريح صرصر عاتية تحصد الناس. والمجتمع الذي يعيش في الديكتاتورية عقودا من الزمن تتيبس فيه المفاصل العقلية ويتوقف عنده الزمن ويصبح خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا وتقتل فيه الحياة قتلاً. وهنا تصبح عملية إعادة تأهيله مشروعا مشكوكا في نجاحه. وما زالت ألمانيا الشرقية حتى اليوم مثل الطفل المعاق الذي يتأتئ في النطق. والهبل المنغولي ليس له علاج. وإزاحة صدام هي الفصل الأسهل من المسرحية. والتحدي الأكبر هو بعد الخلاص من فرعون وحزبه. وعسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون.