روح المقاومة لمواجهة حالة الإحباط

TT

اكتب هذا المقال من خارج التحاليل المتعلقة بأسباب انهيار النظام العراقي ونتائجه الضاغطة، وقد تعمدت ان يكون من داخل عمق الوجدان العربي النابض بآثار الذهول والخيبة والصدمة.

الكل كان يدرك تفوق التحالف الاميركي ـ البريطاني العسكري على القوات العراقية. لكن البعض، وانا واحد منهم، كان يتمنى لو استطاع النظام العراقي ان يصمد مدة كافية للافساح في المجال امام العمل الديبلوماسي لوقف الحرب على العراق. وكنت ممن توقع ان تصمد بغداد على غرار صمود بيروت في العام 1982 أمام الحصار الاسرائيلي. كما كنت أتمنى لو يتعدى نموذج بغداد نموذج بيروت ليرتقي الى نموذج ستالينغراد.

لكن ما حدث كان اقل من كل التوقعات والتمنيات. ذكرتني معركة بغداد بنكسة 1967 التي ما زال العرب يدفعون ثمنها غالياً بعد مرور 36 عاماً على حصولها. وكنت تصورت ان النظام العراقي تعلم امثولات حرب النكسة، وهو مفعم بروح اوكتوبر 1973. حافظ الأسد صحّح حرب النكسة بحرب اوكتوبر بعد مرور سبع سنوات، فمن يصحح نكسة العراق ومتى؟

وكنت أتصور ان النظام العراقي تعلم دروس «حصار بيروت» التي صححتها المقاومة اللبنانية بعد عشرين عاماً حين فرضت على الجيش الاسرائيلي الانسحاب الاحادي وغير المشروط من معظم الأراضي اللبنانية. ولكن من يصحح سقوط بغداد بهذه السهولة؟

وكنت أتصور ان النظام العراقي تعلم دروس حرب الكويت، وقد سمعت من قادة بغداد كلاماً في هذا المعنى، اثناء زيارتي لها في الاول من تشرين الثاني (نوفمبر) من العام المنصرم، على رأس وفد من حزب الكتائب اللبنانية، فقد أكد لنا المسؤولون العراقيون انهم استخلصوا دروس الحرب مع التحالف الاميركي في العام 1991، وانهم يهيئون مخططات من نوع آخر. والحقيقة ان صدام حسين لم يصحح هزيمة 1991 بعد مرور اثني عشر عاماً على حصولها.

لقد وصف المؤرخ العسكري الإنكليزي جون كيغان خطط الدفاع العراقية عن بغداد بأنها «أسوأ الخطط». والمعلقون العسكريون الذين حفلت بهم محطات التلفزة الفضائية كانوا مذهولين لغياب أي دفاعات عراقية جدية. والصحافيون الذين غطوا الأخبار من العاصمة العراقية طرحوا المزيد من التساؤلات حول هذه الدفاعات ولم يجدوا لها أجوبة.

ونحن بدورنا لا نجد مفرّاً من السؤال عن خطة صدام حسين، وعما إذا كانت فعلاً لديه خطة للمواجهة. لقد هدّد الرئيس العراقي بدحر الغزاة عند أسوار بغداد. واغرب ما حصل انه حيث كان الاميركيون يتوقعون ان المعركة ستكون سهلة في مدن الجنوب كانت المواجهة شرسة. أما حيث كانوا يتخوفون من ان تكون المعركة شرسة في بغداد فانها تمت من دون صدام يُذكر!

مشهد بغداد التي سقطت بشكل مدوٍ وهادئ في آن، يدفعنا دفعاً الى السؤال عن ماهية وجود الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري، وعن الاسباب والدوافع والمبررات التي حدت بالجيش العراقي الى الامتناع عن تلغيم الجسور، ورفع السواتر الترابية، ووضع مكعبات الباطون المسلح والعوائق الأخرى على المنافذ الرئيسية لبغداد والمدن الأخرى؟!

ليس في وسعنا ان نصدق أن الجيش العراقي الذي خاض حرب الثماني سنوات ضد إيران، وغزا الكويت، وواجه المعارك ضد تحالف دولي، وتحمل حصاراً دام اكثر من عشر سنوات، وقمع انتفاضة كردية في حلبجة، وقضى على انتفاضة شيعية في البصرة، لا يعرف ما هي المقتضيات لتأمين الدفاعات عن مدينة بغداد!

أين الطائرات الحربية وطائرات الهليكوبتر ومنصات الصواريخ المضادة للطائرات والصواريخ أرض ـ أرض ومرابض المدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ؟ كلها أسئلة تبقى من دون أجوبة، لا سيما لم نسمع في البيانات العسكرية الأميركية بانها دمرت المنظومة الدفاعية العراقية، خاصة ان الجزء الكبير منها هو منصات إطلاق متحركة وصواريخ تطلق من الكتف. وكلنا نشاهد على شاشات التلفزة كيف أن الطائرات الحربية تلقي البالونات الحرارية من أجل تفادي هذه الصواريخ، فلو أن الأميركيين متأكدون من تدمير المنظومة الدفاعية، لما كانوا يلجأون الى البالونات الحرارية!

في موازاة ذلك، والى تاريخ كتابتنا هذه الاسطر، لم يقدم اي سفير عراقي طلبا للجوء السياسي، ولم يقع اي ضابط رفيع في الأسر، ولم يقتل اي قيادي بارز في مجلس قيادة الثورة او حزب البعث او الحكومة. كلهم احياء بعد مضي اكثر من عشرين يوما على الحرب، حتى ان الرواية التي تحدثت عن مقتل علي حسن المجيد ما زالت غير ثابتة. اما مصير صدام حسين ونجليه والقياديين فما زال يلفه الغموض!

كل هذه التساؤلات والمشاهدات ولدت في الشارع العربي، والشارع الغربي المؤيد للعرب، حالة احباط لا حدود لها. كل الذين راهنوا على صمود النظام العراقي وتصدوا للولايات المتحدة يشعرون بالخيبة من العرب اجمعين، ويقولون في قرارة انفسهم انه من الخطأ الرهان على العرب، فهم يخيبون ظن اصدقائهم ولا يواجهون اعداءهم.

امام مناخ الذهول والخيبة والصدمة، الرد الوحيد يتمثل في التمسك بروح المقاومة والتذكير بها، فالاحباط لا تداويه التحليلات والتبريرات والتساؤلات، بل تعالجه المقاومة، والمقاومة فحسب. لذا تخطيت المقال الحدثي لاؤكد ان الرد على سقوط بغداد هو المباشرة في تنظيم المقاومة العراقية في وجه الاحتلال العسكري الاميركي ـ البريطاني.

انا مؤمن بأن العراق سيتحرر غدا او بعد غد، وان جلاء الجيوش الاجنبية عنه سيتم عاجلا ام آجلا. فكما تحرر لبنان بالمقاومة، ستتحرر فلسطين بالانتفاضة والعراق بمقاومة شعبه.

لا تصدقوا ان قدرنا الهزيمة والاستسلام ما دامت شعوبنا تحلم بالمقاومة وتعمل بوحيها.