في الوداع وفي المطاردة

TT

توفي، قبل ايام، الامير ماجد بن عبد العزيز، الذي امضى نحو عقدين اميرا على مكة وما يتبعها من مدن ودساكر وشُعُب. ولاحظت ان المعزين كانوا بالالوف. واصدرت «عكاظ» ملحقاً خاصاً عنوانه «في وداع البراءة». وكنت قد التقيت الامير الراحل مرة واحدة، وتناولت العشاء الى مائدته ولم اعرفه طويلا، لكنني تساءلت عن مدى دقة العنوان: «في وداع البراءة». الم يحدث ان ظلم هذا الرجل احداً وهو يحكم امارة في حجم دولة اوروبية؟ الم يرسل الشرطة في اثر متحدث تسكته وتكّم افواه الناس؟ الم يأمر بافراغ الطرقات حين يمُّر موكبه؟ لا. كان حاكماً وكان بريئاً. كان همه ان يرضي الناس لا ان يظلمها ولا ان يذّلها ولا ان ينكل بها ويرميها في السجون وينساها ويشرد الاهل والابناء. كان همه الوحيد ان تحبه الناس فلما قضى جاء الكل الى وداعه بعفوية وتلقائية مؤثرة. وكنت اتابع العزاء بالامير ماجد، واتابع مثل كل العالم، هرب القيادة العراقية ومطاردتها ومشهد الذين خرجوا الى الشوارع يعربون عن الابتهاج على طريقتهم. وهل تستحق كل هذه الحياة وكل ما فيها وكل تماثيلها وكل غطرستها وعنجهيتها وكل قصورها، لحظة هروب واحدة؟ هل تستحق كل هذه الارض وكل امجادها، ان يصبح الامبراطور فاراً في اعين اولئك الذين ارتضوه مديرا لشؤونهم، فلم يرض بأقل من ان يصبح سيداً على ارواحهم ومن مديراً لحياتهم وآمراً بموتهم ومكافئاً لجلاديهم ومعذبيهم ومغتصبي نسائهم؟

هل تستحق كل هذه الارض ان يسمع الحاكم صوت انين واحد، او ان يصغي الى توسل ارملة واحدة، او ان يشاهد الدمع في احداق يتيمة واحدة؟ قال الامير ماجد وهو يودعني على باب منزله: «اذا جئت جدة في المرة المقبلة ولم تسأل عنا فسوف ارسل للشرطة تحضرك»!

واعتقد انه لم يرسل الشرطة الا لاحضار الاصدقاء. وكان ينام في منزله وفي فراشه ويأكل الطعام من طهاته، ولم يعش هاربا يغير منامه كل ليلة ولا يأكل الى مائدة اي مضيف، ولا يرى ابنه يقتل كبير الطهاة بعصا غليظة امام الضيوف. وكان يقود سيارته الى الامارة بنفسه من دون ان يكون هناك ثلاثة مواكب تذهب كل منها في طريق، او ان يكون هناك ثلاثة شبهاء، او ان يكون هناك الف حارس خفي والف ظاهر والف للطوارئ و300 الف في «الحرس الجمهوري» يتبخرون في لحظة الحقيقة مثل مطر الصيف.

ما اعظم المسؤول الهانئ والمرتاح البال والضمير. ما اعظم اولئك المسؤولين الذين يزرعون الفرح في حياتهم والحزن والفقد في مماتهم. تأملت الوجوه التي جاءت تعزي في وفاة ما جد بن عبد العزيز فرأيت فيها وداعاً صادقاً، شخصياً، فردياً، ذاتيا خاصاً وحميمياً. لقد شعر كل واحد انه فقده. شعر كل من عرفه انه فقد فيه تواضعا وكبراً ووداعة. وناءت الصحف السعودية طوال ايام بصفحات المعزين. ولم اقرأ من قبل عنواناً عن مسؤول، يقول «في وداع البراءة». فكم يجب ان تكون الوداعة اصيلة حتى يراها الناس ويدرك الجميع صدق صاحبها ويصير ثمة اجماع على عدله. معظم الاسماء التي اختفت مع صدام حسين كانت مكتوبة بالدماء او الكهرباء او الكيمياء. وكان اعلامه يطلق اسم «الكلاب الشاردة» على المعارضين، وبينهم 5 ملايين منفي. ولم يكن لذلك الاعلام اصدقاء بل ارقاء عند برزان التكريتي الذي تولى من جنيف التعاطي الفوقي مع صغار الصحافة ومستعطيها والمحترفين الذين لم يعرفوا منها ولم تعرف منهم سوى الصغائر ودناءة النفس واحتراف كتابة الكذب، العلني او الخفي.

الناس تتمنى للعراق خروجاً سريعاً من المحنة واعماراً عاجلاً لكل ما تهدم. وانا ايضاً لكنني اتمنى ايضاً للعراقيين رئيساً يحلم بان يكون له قبر وجنازة بعد العمر الطويل. فهذا امر شبه مستحيل في التاريخ العراقي. ومعظم من سادوا على السلطة دفنوا اشلاء مفزعة ومقطعة. وكل رئيس دخل القصر اراد ان يصبح نبوخذ نصر جديدا. لماذا يا اخوان لماذا؟ لماذا لا يحاول احد ان يصبح لي كوان يو او مهاتير محمد او جواهر لال نهرو؟. لماذا نبوخذ نصر مرة واحدة؟ ولماذا لا تبيعون التماثيل وتشترون بثمنها خبزا ونموا وطبابة وعلاجا وباباً الى المستقبل. او نافذة عليه.