شركاء في الجريمة

TT

مع أنه لا يختلف اثنان على أن النظام العراقي السابق زجّ المنطقة في ثلاث حروب جلبت الدمار والويلات والمآسي ليس على الشعب العراقي فحسب، ولكن على شعوب المنطقة كلها، وأدت في الوقت نفسه إلى استنزاف الكثير من قدراتها البشرية والمادية، وأشاعت حالة من عدم الاستقرار والتشرذم، وفتحت الباب أمام تزايد الوجود الأجنبي وبخاصة الأمريكي في المنطقة. ومع التسليم بكل المساوئ التي اتسم بها هذا النظام من حيث الإمعان في التسلط والاستبداد وتفكيك مفاصل المجتمع والرهانات الخاطئة وغيرها، إلاّ أنه لا يمكن إلقاء مسؤولية ما حدث على عاتق النظام العراقي دون غيره من الأطراف الأخرى التي ساهمت في الجرائم التي ارتكبت بحق العراق.

فالمعارضة العراقية التي تعاونت مع الولايات المتحدة الأمريكية هي أيضاً مشاركة في هذه الجرائم، لأنها لم تحاول جادّة أن تضع حداً لجنون صدام وزمرته وتركته يهدر قدرات العراق وشعبه وجيرانه في حروب لا داعي لها ولا مبرر. صحيح أن النظام المستبد ارتكب مجازر بشعة بحق من حاولوا الثورة للتخلص من ظلم صدام وبطشه، لكن ألم تكن تلك الفترة (أكثر من 12 عاماً) كافية لهذه المعارضة لتنظيم صفوفها وحشد التأييد للإطاحة بالنظام الفاسد؟

لقد قدمت المعارضة نموذجاً في غاية السوء من حيث التشرذم والانقسام، وعدم القدرة على الارتفاع إلى مستوى التحديات، والفشل في بناء قواعد لها داخل العراق، والارتباط باستراتيجيات قوى إقليمية ودولية لها حساباتها وأجنداتها الخاصة تجاه العراق والمنطقة، ولذلك لم تشكل تحدياً حقيقياً للنظام، ومن هنا فإن فشلها في تحمل مسؤولياتها التاريخية يبقى أحد المبررات للقوات الغازية لشن حرب على العراق بذريعة تحريره وتوفير الحياة الكريمة لشعبه. أما بعض فصائل «المعارضة» العراقية التي جاءت على دبابات الاحتلال الأمريكي، فلا همّ لها الآن سوى الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب الفئوية والشخصية الضيقة حتى لو جاءت على حساب شعب العراق وسيادته ووحدة أراضيه.

أما المجتمع الدولي بكل دوله ومنظماته وهيئاته، والذي اكتفى برفض الحرب على العراق وشجبها واستنكارها وإدانتها من دون أن يفعل شيئاً أو يتخذ إجراءات فعلية على أرض الواقع، فهو أيضاً مشارك في الجريمة. كيف يمكن لدول العالم أن تسمح لأمريكا بأن تضرب عرض الحائط بقوانين الشرعية الدولية وتستفرد بشعب لا حول له ولا قوّة بعد أن أنهكته سنوات عجاف من العقوبات الاقتصادية والعزلة الإقليمية والدولية؟ ألم يدفع ذلك دولاً أخرى في العالم إلى أن تفقد إيمانها بالقانون الدولي والشرعية الدولية، وتسعى إلى الحصول على أسلحة الدمار الشامل لحماية وجودها وأمنها من الجنون الأمريكي المستند إلى غطرسة القوة وسطوة اليمين المسيحي الذي يتحكم في توجهات الإدارة الأمريكية، لأن أحداً لن يقدر على حمايتها إذا ما قررت واشنطن غزوها واحتلالها وبخاصة في ظل الاستراتيجية الأمريكية التي تقوم على تأكيد الهيمنة العالمية للولايات المتحدة، وتوجيه ضربات وقائية أو استباقية لأي قوى قد تشكل تهديدات محتملة في نظر واشنطن؟

أما في ما يتعلق بالولايات المتحدة وبريطانيا، ومع الأخذ بعين الاعتبار سجل الأولى الطويل في دعم النظم التسلطية والاستبدادية في المنطقة وفي مقدمتها نظام صدام حسين نفسه، فإني أتهمهما بتضخيم القدرات العسكرية للعراق وما يمتلكه من أسلحة دمار شامل مزعومة، وما يشكّله من تهديد لأمن وسلامة العالم «المتحضر»، وذلك عن سابق إصرار وترصد، ليس لتبرير الحرب على العراق وحسب، ولكن لتبرير استخدام أقوى ما تحتويه ترسانتهما العسكرية من أسلحة تدمير لتحقيق انتصار سريع وحاسم وقتل مئات المدنيين الأبرياء وجرح وتشويه الآلاف تحت أنقاض منازلهم وتدمير متعمد للبنية التحتية بذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية وتحرير العراق.

لقد انتهت الحرب ولم يستخدم النظام العراقي السابق هذه الأسلحة ضد القوات الغازية. وحتى بعد مرور ما يزيد على عشرة أيام على احتلال بغداد قامت خلالها القوات الأمريكية بتفتيش جميع المواقع المشتبه فيها، لم تستطع أن تقدم ولو دليلاً واحداً على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل.

وبدلاً من أن تقوم قوات الاحتلال بتأمين وحماية المواطنين وممتلكاتهم وآثارهم وتراثهم الثقافي ومكتباتهم كما تنص على ذلك اتفاقية جنيف الرابعة، قام الجنود بتأمين وزارة النفط وحقول النفط فقط، فضلاً عن قطع النفط العراقي عن سوريا في إطار حملة تصعيد غير مسبوقة ضدها، وبالمقابل تركوا الغوغاء ليعيثوا فساداً وينهبوا المتاحف والمخطوطات والوزارات والمستشفيات والمدارس والجامعات، ولذا وجد المعوقون أنفسهم بلا طعام ولا دواء، كما تُرك نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية ليهيموا على وجوههم في شوارع بغداد. وبعد ذلك كله بادرت أمريكا منفردة بالطلب إلى الأمم المتحدة لرفع العقوبات عن العراق حتى في غياب حكومة تتفاوض باسمه وترعى حقوقه. هل هذه هي الحرية التي وعدت بها واشنطن أبناء الشعب العراقي؟.

ومع انهيار النظام في بغداد سارعت الدول التي أعلنت معارضتها للحرب لتليين مواقفها والدعوة إلى إعادة الملف العراقي إلى الأمم المتحدة ليس لحماية مصالح الشعب العراقي، واستعادة تراثه المنهوب ولكن لتأمين حصة لها في مشاريع إعادة إعمار العراق.

أما اجتماعات القمم العربية والإسلامية من شرم الشيخ إلى الدوحة وفشلها في تخطي عتبة الحديث في العموميات وإطلاق التصريحات المجردة مثل تأييدها للشعب العراقي ومعارضتها للحرب على العراق، لا يمكن أن تُعفي الدول العربية والإسلامية من مسؤولياتها ومشاركتها في الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العراقي. ألم يكن بمقدور هذه الدول أن تمنع، على الأقل، استخدام الأراضي والأجواء والمياه العربية لشن العدوان على العراق؟ وكيف يمكن أن نصف الدور الذي لعبته الدول المنتجة للنفط التي حافظت على معدلات إنتاج عالية لتمنع ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية؟ ألم تقدم بعض هذه الدول النفط مجاناً للدول التي أيدت الحرب على العراق؟ أليس هذا مساهمة مباشرة لدعم الجهود الحربية للغزاة المعتدين ؟ لقد احتل العراق ومع احتلاله سقط مفهوم الشرعية الدولية، وتوارى دور الأمم المتحدة، كما سقطت مفاهيم مثل الأمن القومي العربي، والمشروع النهضوى العربي، ناهيك من سقوط ما تبقى من مصداقية مؤسسات مثل الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرهما.

الشعب العراقي يعاني الآن من ويلات الحرب والاحتلال كنقص الغذاء والدواء، ولكنه بحاجة أكثر إلى أن يشعر بأن شقيقه العربي وأخاه المسلم قد أفاق من غفوته ليمد له يد العون ويشد من أزره في محنته قبل أن يفقد ما تبقى من إيمان بالمسلمين والعرب ويسترسل بالترحم على أيام العهد البائد.

لقد سئم الشعب العراقي المبادرات الجوفاء ويحتاج اليوم إلى الأعمال الجادة والأخوّة الصادقة والنخوة العربية الأصيلة والتكاتف الإسلامي الحق، ليحافظ على سيادته ووحدة أراضيه قبل أن يطمع بخيراته الطامعون ويتقاسم أرضه المستعمرون. وإذا كان هذا الشعب قد ذاق مرارة الطغيان والاستبداد لفترة طويلة، فإنه يتعين على الجميع أن يتحرك وفي المقدمة الدول العربية والإسلامية لمساعدته على التخلص من مرارة الاحتلال، وإذا كان قدر العرب أن يتعايشوا مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فإنه من المهم أن يتحركوا حتى لا يُكتب عليهم التعايش مع الاحتلال الأمريكي للعراق.

*رئيس مركز الخليج للأبحاث

[email protected]