فرضية تاريخية جريئة

TT

هل احتل العراقيون بريطانيا....؟ السؤال ليس مزحة بل هو فرضية تاريخية حاول ان يثبتها واحد من ألمع الباحثين في فلسفة الحضارة وتاريخ العالم القديم.

والفرضية من كتاب «أ. وادل» في كتاب «الأصول السومرية للحضارة المصرية» حيث يعتقد هذا المؤلف ان الهيروغليفية لها اصول سومرية ويعتمد في اثبات ذلك على تشابه الكثير من الرموز التي رسمت على شكل ادوات وحيوانات وكائنات قبل وصول الانسان الى الحروفية وتخليه كتابيا عن رموز الطبيعة.

اما كيف احتل العراقيون بريطانيا ولم يحضروا اليها كلاجئين سياسيين واقتصاديين، فالأمر يعود حسب هذا الباحث الجاد الى عهد «سرجون العظيم» ولا يكتفي المؤلف بذلك بل ينسب الى احتلال مناجم القصدير في «كورنول» الى العموريين بحدود عام 2800 قبل الميلاد، فبريطانيا دخلت العصر البرونزي على يد العموريين، فلما قهرهم «سرجون العظيم» استولى كما جرت العادة على الاراضي الواقعة تحت سيطرتهم بما فيها «كورنول» البريطانية التي تشير اليها النقوش على انها «بلاد ارض القصدير الواقعة خلف البحر الاعلى الغربي» ويقصدون به المتوسط.

والدليل الوحيد بيد «أ. وادل» نقش من معبد نيبور Nippur يشير الى الامبراطور سرجون باسم الملك «جن» Gin وحولية بابلية تؤكد النقش وتشرح كيف انتصر الملك من البحر الاسفل «الخليج الفارسي» الى البحر الاعلى «المتوسط» وسار ضد ارض الغرب وفتح ارض العرب واخضع الجهات الأربع.

تقول الحولية البابلية: «الملك جن ملك مدينة اكد بفضل سلاح الرب مجدته عشتار، ولم يسلم لعدو او خصم مجده على العالم هو اغدقه البحر في الغرب عبره وفي السنة الحادية عشرة ارض الغروب خضعت ليده، وحدهم تحت حكم واحد، واقام صورة في الغرب، غنائمهم التي حازها رتبت».

والذين نقضوا هذه الفرضية قالوا ان هذه الفتوحات يمكن ان تكون في اي مكان غرب الامبراطورية البابلية ولاحظوا ان المؤلف لا يفتخر بالبابليين ويلوي اعناق الحقائق في سبيل ذلك كرمى لعيونهم وحبا بهم بل يفاخر في الواقع بالعرق الآري، وليس بالعراق، فخلاصة نظرياته ان السومريين هم اصل العرق الآري وان حضارتهم التي امتدت من «اكد» الى «كريت» هي البداية الاولى لتشكيل المركزية الغربية اي باختصار انهم هم اصل الحضارة الانسانية وليس الفراعنة ولا الهنود ولا الصينيين، فمؤلف كتاب «الاصول السومرية للحضارة المصرية» لم يقل ان السومريين من العرق الهندو ـ اوروبي انما حفظ لهم آريتهم الخالصة لتوظيفهم في السياق الذي يخدم مركزية الحضارة الغربية.

وسواء احتل البابليون «كورنول» البريطانية ام اكتفوا بالاحتلال الذي قام به العموريون نيابة عنهم ام ظلت تلك المنطقة بعيدة عن نفوذ المشارقة الى ان اتاها الرومان، فإن في صلب هذه الفرضية الاكاديمية بوادر استعداد اوروبي لمناقشة تاريخ العالم بعيدا عن النفوذ العبراني الذي يجعل اسفار العهدين المصدر الاساسي لتاريخ العالم القديم، وهذا ما جعل ابحاث ذلك التاريخ تدور في حلقة مفرغة منذ قرنين واكثر من الزمان.

كل الامبراطوريات الكبرى في التاريخ الانساني حركت جيوشها وبطشت واحتلت وتفاعلت، وتلاقحت ثم اختفت تاركة بعض الاشارات والرموز والكتابات والنقوش ومعظمها في تمجيد وتعظيم هذا الملك او تخليد مفاخر ذلك الامبراطور.

ان نفاق السلطة ليس شفاهيا ولا ورقيا فحسب، فقبل اختراع الورق كان هناك نفاق كثير منقوش على الاحجار، والاشجار والمغاور، والاعمدة وكل كاتب ـ حجار يكتب في النهاية ما يمليه عليه المستشار او الكاهن أو الوزير.

ان هذا الاسلوب السلطوي في سرد المفاخر لا ينقص من قيمة سرجون العظيم فقد حمل عن جدارة لقب «امبراطور العالم» لان امبراطوريته التي امتدت من وادي السند شرقا الى كورنول البريطانية غربا كانت اوسع من الامبراطورية الرومانية، واكبر من امبراطورية الاسكندر المقدوني لكن هل كانت الحضارة البابلية سومرية الثقافة...؟ وهل كانت لغتها الاصل الذي قامت عليه الهيروغليفية...؟

هنا تحتار الالباب ويحتاج أي باحث ان يقترب بحذر من هذه الاشكالية فرغم تشابه لغة بعض النقوش السومرية والمصرية في مرحلة ما قبل السلالات تحيط الشكوك بهذه الفرضية كما احاطت باحتمال وصول قوات سرجون الى كورنول، ويظل لهذا المؤلف والباحث الجاد رغم الشكوك التي احاطت به والتسفيه الذي لقيه فضل الجرأة في طرح احتمالات مثيرة وشجاعة وذكية قد تقلب ان صح بعضها التاريخ الحضاري للعالم رأسا على عقب.