الخروج من المقبرة

TT

تخيل ان تكون في قبو مظلم لمدة ثلاثين سنة ثم تخرج فجأة الى النور، اي ألم سيصيب عينيك؟ وأي زلزال سيضرب عقلك؟ ألم يكتب افلاطون في جمهوريته «اسطورة الكهف» ماذا يمكن ان يحدث للانسان لو خرج فجأة من الظلام الى النور ومن القيود الى الحرية!!

يبدو العراقيون غير مصدقين للمشهد، هل سقط صدام، هل هم في حلم، هل صحيح ان العراقيين يتظاهرون في الشوارع ويكتبون الشعارات على الحيطان من دون ان يقتلوا؟

منظر بغداد خليط من الكذب والصدق، الدهشة والحيرة. المسيحيون يشعلون شموعهم في كنائسهم ويفتحون الشبابيك على مصراعيها من دون خوف من احد، واتباع المذهب الشيعي يسيرون الى مرقد الإمام لاحياء الاربعين من دون ان يمنعهم احد، والشيوعيون يعقدون مؤتمرهم في وسط ساحة الفردوس في بغداد ويوزعون «طريق الشعب» تلك الصحيفة التي يتجاوز عمرها السبعين عاما والتي اختفت عن العراق ثلاثين سنة، وأمهات المفقودين يحملن صور فلذات اكبادهن وهن يبحثن عن طريقة للوصول اليهم، ومظاهرات تطالب بانسحاب القوات الاميركية فيقابلها جنود المارينز بالابتسام في مشهد لا يخلو من مزيج من الكوميديا والمأساة.

ما يحدث في بغداد ظاهرة صحية، كل من يعبر عن رأيه يمارس انسانيته بغض النظر عن طبيعة آرائه، وكل من يخرج الى الشارع يصرخ في اي اتجاه يمارس عملية البحث عن الذات، وكل من يضع يده في بغداد على رأسه للتأكد من ان هذا الرأس ما زال موجودا يجب ألا يلومه احد!!

الدرس الذي يجب ان يتعلمه العرب خارج العراق وخاصة اولئك الذين دافعوا عن النظام البائد واعتبروا ان القتال معه عملية جهاد في سبيل الله، الدرس يكمن في كمية الفقر المخيف لشعب دولة نفطية غنية، هذا البؤس المنتشر في القرى والاحياء والمدن، هذه الآلاف المؤلفة من النساء والشيوخ الذين يبحثون عن ثلاثمائة ألف مفقود اختطفهم النظام او قتلهم او نساهم في السجون، هذه السجون والاقبية التي يتم اكتشافها كل يوم، هذه المقابر الجماعية والجماجم والعظام التي لا تعرف هويتها، هل يكفي ذلك شهادة على عصر من الفوضى والديكتاتورية التي كان يجب ان يوضع لها حد منذ زمن طويل؟!

لا تلوموا العراقيين اذا عبروا عن حالتهم بأية طريقة فهم قد خرجوا كلهم من مقبرة جماعية.