فقدان المناعة ضد الاستبداد

TT

وقف الخطيب في بغداد وكأنه (ميرابو) الثورة الفرنسية يوجه تهديده للأمريكيين، وزعق في جمهور اعتاد الهتاف بحياة القائد إلى الأبد: أيها الأمريكيون اخرجوا وإلا أخرجناكم؟ فزعق الجمهور خلفه: الله أكبر. وخلال 35 سنة من حكم صدام، لم يسمع المواطنون في خطبة الجمعة إلا الدعاء للسلطان، والحديث عن الجنة لجمهور يعيش في غابة تسرح فيها الضواري. ولنتصور الخطيب أيام صدام وهو يقول له كما قال الممثل الأمريكي لبوش في حفل توزيع جوائز أوسكار: اذهب إلى بيتك؟ ثم يرجع الخطيب إلى بيته؟ إن خطيب بغداد لم يستطع فتح فمه إلا تحت المظلة (الأمريكية). والشعب العراقي لم يتخلص من أصنام صدام حتى جاء عساكر الأمريكان فحطموا الأوثان!

و(الإيدز AIDS) أو مرض (فقد المناعة الكسبي) في الطب، يعني مرض الأمراض. فيه ينقلب الجهاز المناعي إلى جهاز استعماري منتج للفيروس. كما هي وظيفة المخابرات في عالم العربان. والمجتمعات يمكن أن تصاب (بالإيدز السياسي). والعالم العربي اليوم مصاب بمرض (فقد المناعة ضد الاستبداد)، ولذا فهو مستباح داخلياً وخارجياً كما أظهر العراق ذلك بوضوح. فمع انهيار الجهاز المناعي الثقافي أصيب بالسرطان داخلياً. وهو يتعرض للاجتياح الجرثومي (الأمريكي) خارجياً. وعندما يموت الجسم يصاب بالتحلل الداخلي وتهرع إليه طيور السماء وديدان الأرض. فهذا قانون وجودي. وهناك حقيقة لا يستوعبها الناس ولا يشرحها المثقفون، إن ما حصل في العراق يخضع لثلاث معادلات:

(أولا)ً إن العراقيين كانوا في حالة عجز داخلي مقيم، مقتنعون أن صدام وعائلته سيحكمون العراق كما حكمت العائلة الأليخانية بعد هولاكو العراق 120 سنة. وهو مرض لا يخص العراقيين.

و(الثانية) أن من (خلَّص) العراقيين هي (قوى خارجية).. وهي التي مكنت الخطيب أن يتحدث بعد أن أصيب بالخرس نصف قرن من الزمن. وهي التي سمحت لعدسات التصوير أن تنقل، لأول مرة بدون كذب وتزييف، الآلاف وهم يهتفون ضد أمريكا التي تحميهم من أنفسهم! ولكن الاعتراف بهذا أصعب من قص الأنف بالمقص بدون تخدير.

و(الحقيقة الثالثة) وهي الأشد مرارة أن هذا العجز (لم يرتفع بعد). ومن يظن أن (العبد) عندما يتحرر يتحول إلى (سيد) بكل وظائفه النفسية يثبت جهلاً مريعا في علم النفس.. ونحن نعرف من قوانين (الفيزيولوجيا) أن كل عضو لا يستخدم يضمر. وهذا يعني اجتماعياً أن المريض العراقي مصاب بالهذيان، يقذف بعبارات مثل التي نطقها خطيبنا فيلعب بالنار.

إن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة. وإذا كان صدام قد اختفى فإن الوثن باق. وأشربوا في قلوبهم العجل. وفي الوقت الذي ينسحب الغزاة سوف يقفز صدام ديني جديد تهتف له الجماهير بالدم بالروح نفديك! وهي مأساة مزدوجة تضافرت فيها المافيا الدينية والمافيا السياسية على تجهيل المواطن.

إن فقد التوازن مبرر لسببين:

(1) ردة الفعل الهائلة من احتقان سابق. وهو ما يفسر تدمير كل شيء في العراق، فلم تسلم المكتبات والمتاحف. والمكان الوحيد الذي نجا كانت الأسود الجائعة في حديقة الحيوانات. ومن حماها كانت مخالبها بعد أن تحول العراق كله إلى غابة سيدها وحش!

(2) صعوبة استعادة الوظيفة المتوقفة. ومرور وقت طويل على مفاصل لا تتحرك يدخلها حالة التحجر وتصبح قدرة المشي مشروعا محفوفا بالشكوك.

عندما كنت مسجونا لأشهر طويلة مع عشرة أشخاص في غرفة صغيرة لم أستطع المشي بعد الإفراج عني لأن مفاصلي كانت قد تيبست. والشعب العراقي مشلول منذ أيام كافور الأخشيدي، يجتر أحلام السندباد. وعندما دخل الأمريكان العراق ربيع 2003 لم يتغير الأمر كثيرا، فما زالت شهرزاد تكافح عن رقبتها برواية القصص للسلطان شهريار. فالطاغية كان يستمتع كل ليلة بجارية ويعدمها في الصباح.

وقام مفكر مرموق ليقارن بين دخول المغول والأمريكيين بغداد في 7 صفر، مما يذكر بعلم السحر والتنجيم. وهي رواية عن التاريخ مقلوبة. مثل أخرس ينقل عن آخر مهمته الكلام.

إن (الاستعمار) يأتي بسبب (القابلية) للاستعمار. قد يكون خارجياً أو قد يكون داخلياً وهو أدهى وأمر. ونحن نريد حكما عربيا ولو كان يقيم الأوثان. و(الكردي) زعق في محطة فضائية أنه يريد مخابرات (كردية) تضربه! المهم أن تكون كردية!

هل نعيش في مصح عقلي؟

إن أخطر ما يواجه العراق الآن هو بزوغ شمس بن لادن التي غربت في أفغانستان. يجب الحذر، فالطالبان كانت دولة وأدت المرأة، وذبحت الشيعة، ونفت العقل إلى المجهول. وفي السودان علقوا محمود طه على حبل المشنقة فتدلى. ومستقبل العالم العربي مهدد بما هو أخطر من المرض القومي اذا استبدله بالأصولي الدوغمائي. كمن يستبدل السل بالإيدز.

وفي يوم زحف رئيس العيارين (أبو ليث الصفَّار) في خراسان إلى بغداد يريد الخلافة لنفسه، فحذروه من بيعة الخليفة، فسحب سيفا ملفوفا بخرقة وصرخ في الجموع: ما أجلس الخليفة في بغداد على العرش هذا السيف، فعهدي وعهده واحد.

وكما قال عالم شيعي من العراق: كفانا 14 قرنا من مصادرة الإسلام على يد أنظمة استبدادية تحكم باسمه. فتحت كلمة (الشعب) ذُبح الشعب. وباسم الحرية ألغيت كل حرية. وباسم الأمن أنشئت اجهزة الرعب.

إن هذا يروي غرامنا السقيم بالكلمات، وأنه تحت الشعارات تغتال الحقائق (فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة) كما قال النيهوم. وأن الجمهور كما يقول الفيلسوف (كيركجورد) مارد هائل بقدمين من صلصال كالفخار.

مع هذا فإن الديموقراطية لا يمكن فرضها على الناس بقوة السلاح فهذا ضد الديموقراطية. وقانون التاريخ يعاقب المغفلين وينتقم من المجرمين. ومجيء الاستعمار يشبه الصفعة التي توقظ من السبات. وتعطي الأمل للشعوب. أن (التغيير) قانون وجودي إن لم يحصل من الداخل فسوف يتم من الخارج. والكون يقوم على الصيرورة. وهو أس الأفكار في تعاليم البوذية.

يحكى أنه في ليلة مظلمة غابت نجومها أراد اثنان من الخلد أن يتسللا في جنح الظلام، فصرخت بهما البومة أنتما مكانكما؟ فارتجفا في خوف وذهول، كيف يستطيع أحد أن يبصر في الليل، ثم هرعا إلى حيوانات الغابة فقالا إن البومة إلهة؟ فجاء طير كبير فقال لها كم مخلباً أخفي؟ قالت اثنان، فرجع وقال إن البومة أعظم وأحكم حيوان في العالم لأنها تستطيع أن ترى في الظلام وتجيب على كل سؤال. فصاح ثعلب أحمر، ولكن هل تستطيع أن ترى في النهار مثل الليل؟ فضحكت حيوانات الغابة من هذا السؤال السخيف، وهجموا عليه وأصدقائه فطردوهم من الغابة. ثم ما لبثوا أن أرسلوا إلى البومة يتشفعون إليها أن تكون زعيمتهم إلى الأبد. وعندما ظهرت البومة بين الحيوانات كانت الشمس في أشد سطوعها، فأخذت تسير ببطء وترنح مما أعطاها المزيد من مظهر الوقار. وراحت تحملق بعينين واسعتين بلهاء فأعطاها هالة من الأهمية الرهيبة. وصرخت دجاجة إنها إلهة. فردد الجميع نعم إنها إلهة. وتبعوا البومة أينما ذهبت. وعندما بدأت تتعثر وتصطدم بالأشياء فعلوا نفس الشيء، وهم يظنون أنها عين الحكمة. وأخيرا جاءت إلى شارع عريض وراحت تحملق في منتصفه بذهول ولا تكاد تبين، فلاحظ صقر مرافق للموكب شاحنة تقترب بسرعة خمسين ميلاً في الساعة فصرخ: هناك خطر قادم. وسألها من حولها: ألا تخافين؟ فردت البومة: ممن؟ وكانت هادئة لأنها لم تر الشاحنة فصرخت المخلوقات كلها: إنها إلهة ولا شك. وكانت تردد الهتاف بالدم بالروح نفديك يابومتنا الغالية! وبعد لحظات دهست الشاحنة البومة ومعها معظم الموكب. أما من نجا من الباقين فاحتار كيف تموت الآلهة!

وهذه هي قصة صدام والأمريكان والشعب العراقي!