حتى فلسطينياً... أميركا «دائماً على حق»؟

TT

عام 1970 انتخب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في لبنان. وسليمان بك - رحمه الله- كان كما عرفه مناصروه ومحبوه، زعيماً شعبياً تقليدياً تتجسد فيه كل معايير الزعامة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والثلثين الاولين من القرن العشرين. فهو يتحدر من بيت كريم عريق في الوطنية، وابن زعيم وشقيق زعيم، والأب الروحي لـ«عزوة» عائلية ـ عشائرية كبيرة ووفية. ولكن الرئيس السابق رغم مقومات زعامته، كان متوسط التعليم والثقافة، وهذه ثغرة ما كان يعوضها الا رجولته وشهامته وإخلاصه لمحبيه. وأذكر جيداً من الشعارات التي أطلقها الرئيس الراحل عند انتخابه شعار «وطني دائماً على حق».

وبصراحة، أعترف انني لم أفهم المغزى من ذلك الشعار يومذاك، وما زلت لا أفهمه اليوم، وهذا مع العلم انه في «شوفينيته» البريئة البسيطة شبيه جداً بالشعار الذي أطلقه قبله جون كنيدي، الرئيس الاميركي الأغزر علماً والاوسع ثقافة منه، عندما خاطب المواطن الاميركي قائلاً «لا تسل ما باستطاعة بلدك ان يقدم لك، بل سل نفسك عما عليك تقديمه الى بلدك».

في الحالتين نجد «البلد» «او «الوطن» كتلة مبهمة الابعاد ...وغامضة المضمون.

القصد، من كل هذه المقدمة الطويلة العريضة، هو القول اننا كبشر عموماً، وكعرب بصورة خاصة، نفضل ان نفكر بالظواهر المحيطة بنا كما لو كانت قطعاً جامدة Blocs، او كلمات بسيطة او صوراً مبسطة، من دون تعريف او تحليل.

وفعلاً إذا نظرنا اليوم الى الخطاب السياسي العربي ـ وايضاً الاميركي بالمناسبة ـ لوجدنا عزوفاً واضحاً عن التعريف والتحليل. فكل ما نناقشه «قطع جامدة» صماء اما لونها ابيض او لونها أسود ولا شيء غيرهما.

فمثلاً، إما ان تحكمنا قيادات عاجزة فاشلة مفلسة، دموية كانت ام ذيلية، ...أو تحكمنا قوات احتلال يعتبرنا غوغاء من الدرجة العاشرة، وإما ان نرضى بالهوان المحلي المقيم والديكتاتوريات المتخلفة ...او نكون جاحدي الفضل وعديمي العقل إذا رفضنا الذل المنزّل الينا مع قنابل طائرات الـ«بي 52».

السواد الاعظم من ابناء عالمنا العربي مألوم ومكبوت بعدما دغدغته كلمات الديماغوجية، وطعنته في صميم كرامته لاحقاً عبارات التشفي في محاضرات «الواقعيين» ونصائح المشبوهين. ومع هذا يبدو الجميع في حفل صاخب يكاد لا ينتهي يعج بالضياع وجلد النفس والشماتة الوقحة.

فالادارة الاميركية الحالية أضحت «الثابت» الوحيد، وهي حسب «الواقعيين» الناصحين، وحدها «على حق» ...

أفكارها ومنطقها للأمور بات معيار المعايير والكلمة الفصل ...

وتحاملها وأحقادها و«ابتكاراتها» لهويات الناس وولاءاتهم وأصول تكيفهم مع «أحادية» المرجعية الكونية ساطعة سطوع الشمس، ومروّج لها بشتى اللغات والأقنية ...

وقد تطورت ممارستها للنفوذ المطلق، من التآمر المستتر الذي كان اسلوب التعامل مع العالم في ظل الاقطاب ووجود مؤسسات التحاور والتفويض والتوسط «كالأمم المتحدة مثلا»، الى الغزو المكشوف في ظل انعدام التوازن ونهاية تلك المؤسسات ...

والضحايا الصغار، كالفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والافغان والاندونيسيين هم الآن نهاية البداية، لأن الدور آت على من هم أكبر منهم وأهم في الحسابات الدولية...

أما الكلمات الدبلوماسية المهذبة فصارت من مخلفات الأمس، لأن موضة اليوم «تغيير الانظمة»، بالقوة إذا دعت الحاجة، تحت مسمى «الاصلاحات» !!!

ولنصل الى «مربط الفرس». الى الحكومة الفلسطينية، التي قد تثبت الايام انها لا تحكم ولن تحكم ...وحتماً ليس في فلسطين!

فطوال الاسابيع الفائتة عشنا مسرحية هي في واقع الأمر مأساة أليمة اسمها «الحكومة الفلسطينية» العتيدة برئاسة السيد محمود عباس (ابو مازن). وحسب المرجعيات الدولية الثلاث، الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، كان ضرورياً تشكيل هذه الحكومة من أجل المباشرة بالترجمة العملية لما قيل لنا انه «خريطة الطريق»...

الطريق الى أين؟ الله أعلم.

«ابو مازن» رجل له سجل سياسي وتنظيمي معروف على الساحة الفلسطينية منذ عقود. وهو حتى الاسابيع الاخيرة كان جزءاً من الطاقم القيادي الموثوق به والمحيط بالرئيس الفلسطيني (المؤقت) ياسر عرفات الذي طالما اتهمته المرجعيات الثلاث مراراً وتكراراً بالفساد وانعدام الديمقراطية. اما العنصر الاساسي الذي يميز «ابو مازن» اليوم عن حليفه السابق ويمنحه رضى هذه المرجعيات، فهو انه اول قيادي فلسطيني أعلن معارضته لاستمرار «الانتفاضة» واول قيادي أكد بالقول والفعل حرصه على التنسيق الأمني مع إسرائيل، وآخرها إصراره على تسليم ملف الأمن الى السيد محمد دحلان. وهذان، كما يظهر لي ولغيري، هما السببان المباشران اللذان رشحا «ابو مازن» لترؤس الحكومة الفلسطينية، التي منع عرفات قبل سنوات قليلة من إعلانها، وفرض عليه بدلاً من ذلك الاكتفاء بـ«سلطة حكم ذاتي». وهما السببان الكافيان لتبرئة «ابو مازن» من تهمتي الفساد واللاديمقراطية الموجهتين الى كوكبة عرفات ورفاقه.

هكذا، فجأة، مع «ابو مازن»، صار من حق الفلسطينيين ان تكون لهم حكومة، ولكن بشرط ان تختار واشنطن ولندن وتل ابيب رئيسها ووزراءها وسياستها الأمنية!!

مع هذا، نرى ان عدداً من الاخوة في البرلمان الفلسطيني لم يجدوا حتى الساعة الاخيرة في ما يصفونه بـ «الخلاف» بين عرفات و«ابو مازن» الا الجانب الشخصي بين زعيم يحاول، كما يدّعون، المحافظة على مكتسباته القديمة، وزعيم جديد يريد ان يكون سيد نفسه. وهذا لعمري من اعجب العجائب. والأغرب، ان من يقدم لنا هذا التشخيص المبتور طيف من الساسة المحسوبين ظاهرياً على عدة تنظيمات وتكتلات في الداخل الفلسطيني.

ان ما أحسب انه صحيح، ويجب قوله هنا، هو ان عرفات لم يكن في يوم من الايام «شي» غيفارا مثالياً في نقائه الثوري، كما انه فرّط بالكثير من صدقيته ورصيده بسبب حساباته السياسية الخاطئة ورهاناته العبثية وتوقيته السيئ في التنازل والتصلب. وغير ان تعيين «الحكومة الفلسطينية» مسألة مفصلية ذات بعد سياسي خطير جداً وأكبر بكثير من الاشخاص. وحتى إذا كان في مصلحة كل من عرفات و«ابو مازن» تحاشي تسليط الضوء على هذه الخلفية السياسية للتجاذب، فهل يجوز للبرلمانيين والزعامات الشعبية الفلسطينية والاعلامين الفلسطيني والعربي المساهمة في التضليل والتعمية على صلب القضية؟

إن المسألة المطروحة اليوم في فلسطين، بكل بساطة، وتبعاً لما يكتب في وسائل الاعلام الاميركية والاسرائيلية، هي مسألة «تغيير نظام» على الطريقة العراقية. ومع احترامنا لكل من ضمته «الحكومة الفلسطينية» فإن دور هؤلاء لن يخرج عن توقيع صك استسلام رسمي كامل، وإنشاء كيان فلسطيني مسخ أشبه ما يكون بمخيم لاجئين كبير تحت المظلة العسكرية والامنية والسياسية الاسرائيلو ـ اميركية، ويعيش بجانب كيانات عربية مفتتة ومقزمة لن تكون على الأرجح أفضل منه حالاً بكثير.

هذه هي الحقيقة. وبناء عليه، ففي صميم مبادئ الديمقراطية ان يطرح برلمانيو فلسطين واعلاميوها الصورة الحقيقية للوضع على الشعب بلا رتوش. فإذا ايد الشعب المعاني الصابر هذه الصيغة الاستسلامية التي تمثلها حكومة «ابو مازن» ومحمد دحلان، فلا بأس بذلك من دون مزايدة المزايدين خارج الاراضي المحتلة.

أما إذا رفضها، فسيكون من أبسط واجبات المتحمسين لترويج الديمقراطية احترام رغبات شعبهم ...والكف عن عادة استغبائه والمتاجرة باسمه.