لا تتركوا سورية هذه المرة

TT

والصحافيون، عافاك الله، اجناس، على شاكلة اهل البرية والناس، نجاكم ونجانا من الوسواس الخناس. منهم من لا يتراجع امام شيء ويعمل عمله في الشمس والفيء. يزعم انه ذاهب للبحث عن الحقيقة غير عابئ بالاغراءات المعيقة، وتجده ساعيا وراء المتاعب، في بلاد العجائب والغرائب، متسلحا بكل ما جاد عليه من مواهب.

وعندك صحافيون يتوهمون انهم ظرفاء فتطلب رفقتهم وتقع على اثقل الثقلاء. اما الصنف النادر الذي بعلمه يجاهر، وبحياته يقامر، ويتصدى للفاجر، فهو لا يكتفي بان يكون متعبا او ثقيلا، بل يبذل جهدا منكرا مرذولا، من اجل ان يجمع بين الاثنين، قبل ان يأتي يوم الاثنين، ولو كلفه ذلك نور العينين. وخير مثيل، ذلك الزميل، الذي يطرح دائما نفس السؤال الثقيل:

ـ هل عثرتم على اسلحة الدمار الشامل في العراق؟

ولشدة اصراره على السؤال ذاته وتكراره في كل ندوة من ندواته، ندوات السيد دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الاميركي، انتهى بان اغضب الوزير، الذي اجابه بانفعال كبير: «لماذا تسأل دائما هذا السؤال»؟

صحيح، لماذا يسأل عن اسلحة الدمار الشامل؟

استغرب مراقبون اميركيون ان يفقد الوزير اعصابه، وخافوا ان يكون ذلك مؤشرا على فقدانه الامل بالعثور عليها في العراق، او فقدانه الايمان بوجودها فيه. وقالوا فيما بينهم انه كان يجدر بالوزير ان يجيب ببساطته المعهودة ولباقته المشهورة: لم نعثر حتى الآن لكننا ما نزال نفتش. المسألة مسألة وقت فقط. بعد شهر، بعد سنة، بعد عقد.. لماذا الاستعجال؟ الآن، وقد استقررنا في العراق بات بامكاننا ان نفتش عنها بمنهجية علمية، وبأحدث الوسائل التقنية.

واضاف الوزير الخطير، وفي نبرة صوته اسوأ نذير: عندي لكم خبر اهم من اسئلتكم الخرقاء، التي تسخر منها الشقراء والزرقاء. لقد عثرنا على ادلة دامغة، لا تستدعي تساؤلات فارغة، تثبت ان اسلحة الدمار الشامل العراقية هُربت الى سورية، التي تنتج هي ايضا، اسلحة من هذا العيار، ولا بد ان نذهب لنفتش عنها هناك.

صحيح، كان بوسع الوزير.. كان يجب على الوزير ان يجيب بهذا المنطق المفحم كي لا يترك مجالا للنقاش.

سؤال آخر بات المراقبون انفسهم يخشون ان يثير حساسية الوزير وهو: «اين صدام حسين؟ لو كان ميتا لعثرتم على جثته. هل تبخر؟ هل انشقت الارض وبلعته»؟ طبعا، لا هذا ولا ذاك. ولكن، امام تردد الوزير، وابتسامة منه غامضة، ونظرة منه عارضة، تحمل الف معنى وتغني عن المبنى، اشتبه عدد من هؤلاء المراقبين بانه يخفي سرا، فتحولوا الى كبار معاونيه.

وبعد اخذ ثم ردّ، اسرّ مصدر موثوق به في آذانهم بان الرئيس صدام حسين وصل الى دمشق، وبان وكالة المخابرات المركزية CIA تمكنت من تصوير وصوله، وبان الصور تظهر وزيرا سوريا يشبه السيد فاروق الشرع في استقباله.

لم يستبعد المراقبون الخبر. لكنهم دهشوا من زجّ اسم الوزير الشرع في هذه القصة. فما كان من المصدر الموثوق به، غير المأذون له، الا ان اكد لهم ان المسؤول السوري ليس الوزير الشرع. لكن، اذا اقتضت الضرورة ان يشرّعوه فلن تكون المهمة سهلة، الا انها ليست مستحيلة. ولفت نظرهم الى انه ليس المهم ان يكون هذا الفاروق فاروق الشرع، المهم ان يكون صدامهم صدام حسين. واضاف ان خبراء البنتاغون اعتبروا انه صدام حسين. وان عندهم الف طريقة لاقامة الدليل على ذلك. واكد المصدر الموثوق به ان هذا الاكتشاف لم يغضب الوزير رامسفيلد، انما اثار دهشة الرئيس جورح بوش، الذي، نظرا لحنكته وطول باعه في السياسة الخارجية، همّ فورا باصدار اوامره.. لكنه استدرك نفسه، وكبح حدسه، وسجد على الارض وغاص في نوبة من الابتهال، راجيا من الله ان يلهمه القرار الحكيم، ونادما اشد الندم لانه كاد يشعل حربا جديدة قبل ان يصلي.

وتلك الصلاة الحارة والمستجابة بالتأكيد، بدليل انها اتاحت للوزير رامسفيلد ان يتصل بالرئيس قبل ان يصدر اوامره الامبراطورية. وشرح الوزير للرئيس وطوّل الشرح، ان وجود صدام حسين في دمشق هو احلى خبر تلقاه منذ انقطاع اخبار بن لادن. فذهل الرئيس بوش: كيف يكون مثل هذا الخبر سارا، وصدام حسين يوشك ان يفلت من بين ايديهم؟ وجمع الوزير رامسفيلد كل ما يتمتع به من صبر ودبلوماسية وذكاء ومنطق وفروسية، وقال: هناك خمسة اسباب تحملنا على الارتياح لوجود صدام حسين في دمشق. اما الاسباب الاربعة التي يجب ان اطلعكم عليها، سيدي الرئيس، فهي في الواقع ثلاثة. وستتفهمون تحفظي اذا اكتفيت بذكر سببين فقط: اولا واخيرا، فان معرفتنا بوجود صدام حسين في دمشق تضمن لنا انه لم يعد موجودا في العراق، وتسمح لنا بان نتهم سورية وبان نهددها، وربما بان نجتاحها، وذلك بمجرد ان يأتيك الهام رباني آخر يأمرك بالذهاب الى سورية، يا سيدي الرئيس، دون الحاجة الى مجلس الامن، ولا الى صديقنا الفتى الاغر طوني بلير، الذي بدأت تظهر عليه عوارض هرم اوروبية. ولذلك يستحسن بان نتظاهر باننا لم نعرف شيئا. ونواصل الصلاة. وتظاهر الرئيس بانه فهم.

وتابعت الاجهزة عملها دون ضجيج ولا تهييج. فجأة، ودون سابق انذار انفتحت الابواب على سورية كالانفجار، وانطلقت التهديدات المعلنة والمبطنة في الليل والنهار. وسارع المراقبون عن الخبر يسألون، ظنا منهم ان سبب الحملة العنيفة هو قبول سورية ان تؤوي صدام حسين، وكم كانت دهشتهم كبيرة حين اخبرهم الموثوق به غير المأذون له ان المخابرات واجهزة الرصد فقدت اثر الرئيس العراقي. فثارت ثائرة الوزير رامسفيلد، وبدأ بشن الحملة الاعلانية على سورية. وتوجس شرا، وخاف ان يكون صدام حسين عاد الى بغداد. وحين ابلغته المخابرات انها فقدت اثره بالقرب من مطار دمشق الدولي، ازداد خوفه من ان يكون نجح في ركوب طائرة الى كوريا الشمالية.

لم تكن المخابرات الاميركية وحدها مشغولة ومنهمكة بتقفي اثر الرئيس العراقي المخلوع. الاجهزة الفرنسية، والالمانية والروسية، وكل من هبّ ودبّ، في هذا الوسط الذي ليس له اب. وسجلت جميعها ان الرئيس جاك شيراك كاد يطير من الفرح حين علم ان صديقه القديم صدام، غادر عاصمة العباسيين بسلام، واستقبلوه في عاصمة الامويين بوئام، بعد طول ذلك الخصام.

وعلى الفور اخترع مهمة دبلوماسية طارئة لوزير خارجيته دومينيك دي فيلبان واوفده في جولة الى دول الشرق الاوسط. ولاحظ المراقبون ان الوزير الفرنسي استخدم الطائرة الرسمية، التي تحمل شعار الجمهورية، في تلك الرحلة السندبادية. وانها حطت في مكان بعيد عن الانظار، في احدى زوايا دمشق المطار. ولاحظ المراقبون مرة ثانية ان الوزير الشاعر اختلى بالرئيس السوري الشاب قبل ان ينضم اليهما سائر اعضاء الوفدين. وتوقع المراقبون ان تكون الصفقة تمت في تلك الخلوة. ونُسب الى مصدر عليم ان الرئيس السوري تردد قبل ان يوافق على التخلص من صدام حسين، لانه كان يأمل بان يستخدمه في صفقة يعقدها مع الاميركيين: يسلمه مقابل ان يتعهدوا بعدم الاعتداء على سورية. ولم يوافق على تصديره الى فرنسا الا بعد ان ضمن ان الرئيس شيراك سيخرب الارض، ويجيّش الرأي العام العالمي بالطول والعرض، اذا تجرأت واشنطن ونظرت الى سورية شزرا. واضاف مصدر فرنسي ان لقاء الرئيسين كان مؤثرا. سالت دموع الرجلين فأسالت دموع الحضور على قلتهم.

وعرض الرئيس الفرنسي ان يستضيف صديقه، الذي سارع وشكر، وعن الضيافة الكريمة اعتذر، واستأذن الرئيس شيراك بان يقيم مع زميله وحليفه الجنرال ميشيل عون، بانتظار ان تنجلي الغيمة العابرة ويتحرر الوطنان: وطن الارز ووطن النخيل، فيعودا معززين مكرمين، ويستأنفا مسيرتيهما المجيدتين في خدمة العروبة والقضايا العادلة من اجل تحرير فلسطين. من قال ان طريق القدس لا تمر في باريس؟

***

كلا، هذه ليست هلوسة اعلامي نضبت مخيلته وخانه قلمه فشطح. هذه سياسة بوشية وممارسة رمسفيلدية ومنطق ولفووتزي ومخططات صهيونية، بالكاد تكون كاريكاتورية. ويحسن بالمسؤولين العرب ان يأخذوا التهديدات الاميركية لسورية على محمل الجد، لا يجوز ان تنطلي عليهم الرسائل المستجدة والملطّفة التي وجهها الرئيس بوش الآن. اولم تبدأ الحملة الاعلامية على العراق بهذا الشكل، ثم تصاعدت حتى الحرب؟

واذا كان افتتان صدام حسين بنفسه حتى المرض، وممارساته الغريبة، ودموية وعدوانية نظامه قد اجازت التساهل مع بعض العرب الذين ساعدوا الولايات المتحدة بالقول او بالفعل، فانه لا يجوز التغاضي عن اي تواطؤ عربي هذه المرة. بل يجب النهوض بقوة وفاعلية لرد التهم والتهديدات الاميركية. كما يجب وضع الجميع امام مسؤولياتهم وتوعيتهم على ان التضامن ليس مطلوبا باسم الاخوة العربية فحسب، انما باسم المصلحة الشخصية الفردية لكل دورة على حدة ولكل رئيس او ملك او امير او شيخ بمفرده. ولن تنفع بيانات التأييد والتنديد. المطلوب العمل الذكي الفعّال. واذا نشط العرب ووقفوا وتحركوا، ثمة حظ وفرص بان يقف الى جانبهم كثيرون، والا تعرّضت سورية للضرب. وبعدها لن تقوم قائمة لعربي، في المستقبل المنظور، حتى لو تمكنت دمشق، بمساعدة اللبنانيين، من توجيه ضربة موجعة للمعتدين المحتملين.

في الحكمة العربية ان الاحمق مَن ارتكب حماقة. الاحمق من ارتكب حماقة ولم يَدْرِ فأعاد الكرة. والاحمق عدو نفسه، فكيف يكون صديقا لاحد؟

وهذه الادارة الاميركية باتت اشهر من ان تُعرّف. لعل وعسى تنتصر الانظمة العربية على نفسها وتكتفي بحماقة واحدة.

* كاتب لبناني مقيم في باريس