اليوم التالي له قراءة مختلفة!

TT

تعددت زوايا النظر لما يجري وما سيجري في منطقة الشرق الأوسط بعد سقوط بغداد. وتركزت الرؤى حول مصير المنطقة في ظل التوجه الامريكي الرامي لخلق منطقة بمواصفات مصممة في الولايات المتحدة الامريكية ووفق رؤى العم سام ترمي في نهاية المطاف الى تحقيق المصلحة المادية الكاملة لها في المنطقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى صبغ أسلوب الحياة الامريكية بكل دقائقها على المنطقة حتى تكون داعما لها في تحقيق مصلحتها المادية لأطول فترة ممكنة. ولعل المراقب لما يجري في الساحة يلحظ ان السياسة الامريكية تدرك انها تسعى الى جانب غزوها العسكري والسياسي للمنطقة ان تمرر غزوها الثقافي والاقتصادي عبر القيم والشعارات حتى تجلب اكبر قدر ممكن من شعوب المنطقة من حيث يشعرون أو لا يشعرون لتعزيز وجودها العسكري والسياسي.

فعندما تنادي الادارة الامريكية في سياستها الخارجية بمحاربة النظم الدكتاتورية والمحافظة على حقوق الانسان مهما كان شكله ولونه وجنسه، ومساواة الناس في الحقوق والواجبات، وحرية الانسان في ان يعمل ما يشاء وفي أي وقت يشاء وبالكيفية التي يشاء، وان الناس امام العدالة سواء لا فرق بين كبير وصغير، وأن الحكومة لأي بلد يجب ان تكون منتخبة معبرة عن آمال وتطلعات شعبها. وتعد بالرفاه الاقتصادي والحياة الكريمة، نقول فعندما تنادي ادارة العم سام بمثل تلك القيم فانها تقوي موقفها السياسي والعسكري من جانب، وذلك باستمالة شعوب المنطقة لها. لذا فان المواجهة ليست فقط عسكرية سياسية ـ مواجهة حكومات ـ بقدر ما هي مواجهة شعوب كل منها يسعى لترويج مبادئها. والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه في الازمة الراهنة ويحدد مصير المرحلة المقبلة، كيف يمكن مواجهة ما يروج له من مبادئ وشعارات، اي كيف يمكن ان تتصدى شعوب المنطقة للغزو الثقافي الامريكي؟

لعله من الاجدى اولا ان نقر بأن هذه المجتمعات حققت تقدما كبيرا في مجال تنمية الانسان على جميع الاصعدة واهتمت به ثقافيا وصحيا ومهنيا وانها وصلت مراحل متقدمة في الاهتمام بطبيعة وتكوين النفس البشرية بما يتجاذبها من امل وألم، واستطاعت ان تلامس هذه النفس. كما انها ادركت ان تطور المجتمع في مجمله يعتمد اساسا على مدى نجاح هذا الفرد، فالعلاقة عكسية، عندما تمتلك فردا ناجحا تمتلك مجتمعا ناجحا. ولهذا يجدر بنا ان نحاول تصحيح ما نحن عليه حتى نستطيع ان نواكب المرحلة المقبلة بكل اشكالياتها آخذين في الاعتبار هذا الانسان الذي اهمل في كثير من الاوقات بحجة الازمات التي تواجه الامة، فلا الامة نجحت ولا الانسان استطاع ان يحقق مبتغاه. ولذا فان الامور التي ينبغي التركيز عليها في هذه المرحلة وبعيدا عن الشعارات الكبرى التي لم نستطع تحقيقها تكمن في:

اولا: نشر ثقافة الحقوق والكف عن التذكير بالواجبات التي حفظها افراد المجتمع عن ظهر قلب، والاستعاضة عنها بثقافة الحقوق والواجبات مجتمعة، حتى يكون كل منها داعما للآخر.

ثانيا: بث روح المشاركة الوطنية وفتح مجالاتها امام رجل الشارع العادي، فهو مشارك اساسي في بناء مجتمعه، وهو عامل حاسم في تنمية ورقي المنظومة التي ينتمي اليها، وذلك عن طريق تفعيل دوره في كافة اوجه النشاط القائم في محيطه، كل ذلك يمكن ان يتحقق باعطائه الفرصة في المشاركة الحرة في العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، وكذلك تحبيب العمل التطوعي والتشجيع عليه وإبراز آثاره، كتشجيع قيام المؤسسات المدنية في المجتمع والعمل على تفعيل نشاطاتها لتشمل جميع نواحي الحياة، بل حث افراد المجتمع على الانضواء تحت احداها والمشاركة في نجاحاتها، كما ان ثناء الجهات الرسمية في المجتمع على القائمين في مثل هذه المؤسسات وتثمين مشاركاتهم يسهل عملية قيامهم بأنشطتها ويساعد على استمراريتها ويدعم اعمالها.

ثالثا: اعطاء الشعوب مزيداً من الحرية في اتخاذ قراراتها وفق تصوراتها الخاصة وكذلك نقدها لما يدور حولها وخصوصا في الامور ذات العلاقة المباشرة بها ناهيك من الامور الكبرى التي قد تحدد مستقبلها، سواء في المنتديات العامة او وسائل الاعلام المتعددة، وعدم قصر الخوض في هذه الامور على جهات معينة ذات توجهات معروفة مسبقا، فلم يعد المجال مقتصرا على وجهة النظر الواحدة "ما أريكم الا ما أرى"، فالحياة العامة أرحب ويمكن ان تستوعب اكثر من وجهة نظر. ولعل هذا يتطلب ابتداء تحرير العقل من فكرة ان اختلاف الآراء مفسدة.

رابعا: إرساء مبادئ العدالة في المجتمع بجميع شرائحه وطبقاته، فالكل امام القانون سواء، والكل مساءل عن تصرفاته، الكل تطالهم يد القانون، لا استثناء، فالقاعدة القانونية وضعت عامة مجردة، لم ينظر عند وضعها الى شخص من تطبق عليه او مركزه في المجتمع، ولعل تاريخنا زاخر بكثير من التطبيقات الدالة على ذلك. وكذلك تفعيل دور رقابة لما يدور حوله ومساءلة القائمين على الشأن العام عند تقصيرهم في أداء أعمالهم، بل وإحالتهم الى الجهات الرقابية والقضائية لاتخاذ ما تراه مناسبا تجاههم.

خامسا: اعادة النظر في سياسات التربية والتعليم المبنية على التلقين والكم وليس الكيف، الذي عطل عقول الناشئة والاستعاضة عنه بأسلوب الاقناع والحوار والمشاركة حتى تكون هذه العقول على ايمان بما تتعلم وتتربى عليه، كما ان هذا الاسلوب يعطيها القدرة على الابداع والابتكار، بل انه يساعدها عندما تنتقل الى حياتها العملية على تطوير ادائها وتنمية مهاراتها لانها نشأت على ذلك.

لعل مما سبق يتضح ان هنالك زاوية اخرى يجب ادخالها في المعادلة القائمة وهي المجتمعات العربية وارادتها، وابراز ما يمكن ان نقوم به في تحديد مصير المستقبل الذي ستكون عليه المنطقة، آخذين في الاعتبار المصالح والمطامع الامريكية التي تسعى لتحقيقها على التناقضات التي تعيشها المجتمعات العربية في المنطقة.