بعد نصف قرن من الصمت: العراقيون يتحدثون

TT

يبدو أن سلسلة اجتماعات دور البلدية التي افتتحت في الناصرية في وقت مبكر من هذا الشهر صارت مظهراً من مظاهر السياسة العراقية. التجمع الثاني يقام في المنطقة الشمالية التي غالبية سكانها من الأكراد. وهناك على الأقل 6 اجتماعات من هذا النوع يتوقع أن تقام في أماكن أخرى من العراق.

وبالنسبة لشعب لم يسمح له بالحديث بصوت عال دعك من أن يسمح له بالحوار السياسي في العلن فإن التجربة تعتبر غير مسبوقة.

احد الأشياء التي تتضح في بداية اجتماعات دور البلدية هذه هي إنها ليست مجالس تشريعية. إنها اجتماعات سياسية يتحدث فيها المشاركون أصالة عن أنفسهم ونيابة عن مجتمعاتهم. وتوفر الاجتماعات مشهداً جميلاً نادراً لا يشاهد في بلد عربي آخر، فالمواطنون من كل حدب وصوب يأتون ليشاركوا في الحوار حول قضايا سياسية دون خوف من سطوة الشرطة السرية التي تتواجد في كل مكان. ويمكن للمشاركين أن يصرخ أحدهم في وجه الآخر وأن يلوحوا بقبضاتهم نحو خصوم حقيقيين أو متخيلين، ويمكنهم حتى حشد مؤيديهم خارج القاعة كي يؤدوا الدور الكلاسيكي اليوناني للكورس في التأييد.

يتوقع من المشاركين في الاجتماعات أن يقدموا توصيات حول ما سيكون عليه العراق الديمقراطي الجديد، ولكنهم لا يملكون السلطة لإلزام الشعب بأي قرار يكون له أثر دائم. ولأن معظم المشاركين من المواطنين العاديين الذين لا يمتلكون تجربة ذات شأن في مجال السياسة العملية فلا بد لهم أن يكونوا حذرين بألا يشجعوا التوجهات التخريبية دعك من تشجيع التوجهات الاستبدادية التي توجد عادة في المجتمعات التي تعرضت للحكم الاستبدادي لفترة طويلة. وعلى العكس من ذلك يجب عليهم أن يحاولوا تشجيع التوجهات الليبرالية التي تحتاج لدفعة حقيقية كي تأتي إلى المقدمة بعد نحو نصف قرن من الدكتاتورية والرعب.

وفي هذا الإطار فإن توصيتين خرج بهما اجتماع الناصرية تستحقان توجيه اهتمام خاص نحوهما.

التوصية الأولى تتعلق بخطط تحويل العراق إلى دولة فيدرالية. وقد طرحت الخطة لكسب الطرفين الرئيسيين اللذين يهيمنان على بعض المحافظات العراقية التي تعيش فيها غالبية كردية. ولكن، من الواضح أن الداعين إلى الخطة لا يعرفون تماماً ماذا تعني الفيدرالية.

تظهر الدولة الفيدرالية إلى الوجود حينما تقدم دولة أو دولتان، كانتا موجودتين في الأصل، على الانضمام معاً لتكوين دولة واحدة. هذه كانت حالة الولايات المتحدة الأمريكية حيث تجمعت 13 ولاية لتكوين الاتحاد. كما أنها حالة ألمانيا، حيث صارت عدة ولايات كانت موجودة سلفاً ضمت بينها إمارات وممالك قديمة، شريكة في اتحاد جديد. ولقد مرت الهند المستقلة بتجربة مماثلة. وعندما تقدم عدة دول على تكوين دولة أكبر فإن النتيجة هي تكوين كونفدرالية كما في سويسرا.

إن الجاذبية الأساسية للفيدرالية هي الوعد باحترام وتقدير التنوع الثقافي والإثني والديني. وشعارها هو الوحدة الطوعية.

لكن الفيدرالية في بعض الأحيان يمكن أن تؤدي إلى تقسيم الشعوب بدلاً من توحيدها. ففي الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية أساءت الولايات الجنوبية للفيدرالية بأن استخدمتها للمحافظة على الاقتصاديات التي تستند إلى العبودية.

وفي الهند صارت الفيدرالية غطاءً للفساد الإقليمي والاضطهاد الطائفي والإثني للأقليات المحلية، ولاتباع أساليب المافيا في توزيع المناصب السياسية في المركز.

إن الاتجاه الحالي في معظم أجزاء العالم يبتعد كثيراً عن الفيدرالية ويتجه نحو تكوين تجمعات إقليمية كبيرة من البلدان في إطار العولمة. وفي نفس الوقت هناك حركة واضحة نحو إعطاء سلطات واسعة في اتخاذ القرار للسلطات المحلية.

خلال العشر سنوات الماضية أو نحوها رأينا عدة تكوينات فيدرالية تتفكك وهذه تشمل الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. وفي أماكن أخرى كما في الكونغو (زائير) فإن تفكك التكوين الفيدرالي فجر حروباً أهلية دموية وطويلة. وحتى في الديمقراطيات مثل كندا فإن التكوينات الفيدرالية ظلت تتعرض لضغوط هائلة من الأقليات التي تشعر بأنها خدعت.

ولنعد للعراق. من الصعب رؤية من سيشكل فيدرالية مع آخر. لقد ظهر العراق كدولة موحدة بعد توحيد ثلاث محافظات عثمانية لم يكن لاحداها من قبل دولة متميزة بمفردها.

اعتاد بعض النقاد اعتبار العراق "دولة مصطنعة" (يمكن أن يقال الكلام نفسه، بالطبع، عن أي دولة أخرى على الأرض!) لكن بالمزيد من التدقيق فان اعتبار العراق دولة وحدوية يكتسب معقولية كبيرة. إن العراق دولة لأرض مقفلة تقريباً، وهكذا فإن أجزاءه الشمالية والوسطى تحتاج إلى منفذ إلى البحر يقدمه الجنوب، بينما يحتاج الجنوب إلى الماء من الشمال والوسط لتعضيد اقتصاده الزراعي الفتي.

ثم هناك عنصر النفط الذي يعتبر أكبر مصدر يزود البلاد بالعائدات من العملات الأجنبية. إن التحكم في النفط بواسطة سلطة مركزية سيجعل أي تكوين فيدرالي بلا معنى. أما إذا تم التحكم فيه في الأقاليم التي وجد فيها فإن قطاعات عريضة من سكان العراق ستحرم من نصيبها العادل.

هناك ميزة عراقية أخرى هي أن أنظمة مياهه يجب أن تدار على نحو مركزي. وهذا ما جعل بلاد ما بين النهرين مهداً لأول الدول المركزية في العالم.

يجب ألا يتخوف العراق من تنوعه الاثني والثقافي. فعلى العكس من ذلك، يمكن أن يتحول ذلك إلى مصدر قوة. ويجب على المجموعات الثقافية والاثنية المختلفة أن تفتح نوافذ أكثر نحو بعضها البعض بدلاً من إغلاقها باسم الفيدرالية.

إذن ما هو النموذج الأفضل للعراق؟

من مصلحة العراقيين أن يدرسوا تجربة اسبانيا ما بعد حكم فرانكو. إن اسبانيا كدولة قديمة مركزية لا يمكن أن تتحول إلى فيدرالية مصطنعة. وفي نفس الوقت فإن الأقليتين الاثنيتين فيها، الكتلانز والباسك، لهما مطالب مشروعة في الحكم الذاتي. وقد نجحت اسبانيا الديمقراطية في المحافظة على وحدة الدولة بينما أعطت لأقلياتها حريات أكثر كما أعطتها امتيازات خاصة أكثر مما كان سيقدمها لها تكوين فيدرالي.

التحفظ الثاني الذي يمكن إيراده حول توصيات الناصرية يتعلق بحظر حزب البعث العربي الاشتراكي.

الآن، وأرجو ألا يساء فهمي، فإن الآيديولوجية البعثية هي نموذج قاتل من الفاشية استورده العالم العربي من الغرب. لكن الفاشية البعثية، كغيرها من الأيديولوجيات الشمولية يجب أن تهزم على أرض معركة الأفكار وفي الساحة السياسية.

إن حظر الأحزاب يعتبر وسيلة تستخدمها أنظمة الاستبداد وليس الأنظمة الديمقراطية, وإذا كان هناك عراقيون على قدر من الغباء يبلغ درجة رفع راية البعث يجب أن يكون لهم الحق في ذلك. إن إحدى جماليات الديمقراطية هي أنها تسمح للناس أن يكونوا أغبياء ما داموا يلتزمون بالقانون.

طوال فترة الحرب العالمية الثانية سمحت بريطانيا لحزبها الفاشي بقيادة اوزوالد موسيلي أن يعمل بحرية مع أن العديد من البريطانيين نظروا إليه بوصفه طابوراً خامساً يعمل لمصلحة ألمانيا النازية وحلفائها من دول المحور. وهذا كان هو الفرق بين ديمقراطية بريطانيا واستبداد ألمانيا.

إن عراق اليوم ليس بالتأكيد بريطانيا قبل 60 عاماً، ولكن عليه ألا ينحدر نحو طريق حظر الأحزاب السياسية. إن القيادة المجرمة لحزب البعث العراقي يجب بالطبع أن تقدم للمحاكمة وإذا استدعت الضرورة أن تبعد عن الحياة السياسية لمرحلة محددة أو مدى الحياة. أما بالنسبة للبقية فإن على المرء أن يتذكر دائماً الحقيقة البسيطة التي تقول: إذا حظرت أحداً اليوم فقد يحظرك غداً.