انطباعات من داخل التجربة: مهنتي ومشاعري في زمن الحرب

TT

ستبقى الحرب على العراق ماثلة في ذاكرتي ووجداني ما حييت، فإلى جانب انها حرب لاظهار قوة وبطش الدولة الامريكية العظمى، فقد كانت من العنف والتدمير والتعتيم الاعلامي واخفاء الحقيقة عن الناس (من الطرفين، العراقي والامريكي) مما يجعلها فريدة بين الحروب.

ورغم اننا في قناة النيل المتخصصة بالاخبار، نعنى عناية خاصة بالقضية الفلسطينية، ونرى ونسمع ونذيع انباء ومعلومات «مروعة» عن القتل والاغتيال وهدم البيوت وتشريد مئات الوف العائلات الفلسطينية، الا ان ما حدث في العراق كان بالنسبة لي ولتجربتي الاعلامية، عملا لم يكن في مقدور اعصابي وعقلي وضميري تحمله، فأنا من ناحية مذيعة وعليّ واجبات تقديم اخبار الحرب للمشاهدين برباطة جأش ومتانة اعصاب، لكني من الناحية الاخرى لم اكن قادرة على فصل جسدي وروحي واعصابي عن الكلمات المكتوبة امامي او التي اقرأها للناس وفي حين كانت العبارات تخرج من فمي واضحة بكل ثقلها وحجمها الدموي، كانت جوارحي تكاد تتمزق كلما اعلنت عن غارة او تدمير او رأيت مع المشاهدين دماء الجرحى من الاطفال والنساء والناس الذين ليست لهم حيلة ولا قوة على عاصمة الرشيد وبقية المدن العراقية.

لقد كان عليّ وعلى زملائي كافة، ان ننقل للناس ما يحدث وكأنه صورة فوتوغرافية.. وكأننا نحن ايضا آلات للتصوير، لكن ذلك لم يكن ممكنا، فقلبي مع العراقين ولساني مع ما تأتي به الوكالات والاخبار، وكان عليّ ان امسك باعصابي وقسمات وجهي كي لا يبدو عليّ انني متأثرة او غاضبة من بطش الحلفاء، ومتعاطفة مع العراق والذين يحبون العراق. ولذلك كنت شأني شأن معظم الزملاء والزميلات وكأنني من طين، ثم لا ألبث ان اسقط على مكتبي شبه مغشي عليّ.

فالذي حدث اثناء الاسابيع الثلاثة الممتدة بين 18 مارس وليلة 8 ـ 9 ابريل لم يكن حربا بالمعنى المتعارف عليه. ولم يكن معركة بين جيشين، بل كان حقلا واسعا تبلغ مساحته ثلث مساحة السودان، لتجارب القنابل الذكية والغبية وأم القنابل والعنقودية والحارقة وغيرها وغيرها التي تلقيها الطائرات والبواخر والبوارج والغواصات على 25 مليون عراقي ينتشرون دون اي ملجأ واق في خمس أو ست مدن كبرى والتي رأت وشهدت وعانت من الدمار والقتل الجماعي على مر العصور.

والحقيقة ان البطش الذي وقع على العراق لم يكن يثيرني كمذيعة عربية وحسب، بل كإنسانة ايضا فنحن نعاني مع ملايين العرب آلام اهل فلسطين، مثلما عانيت من الفظاعات التي الحقتها روسيا في الشيشان والسلاح الامريكي بافغانستان ومثلما عانينا جميعا من الذي حدث في نيويورك في جريمة 11 سبتمبر 2001. ويحدثني والدي عن الفظائع التي حدثت في اليابان وفيتنام والتي سجلها التاريخ بأبشع الصور واقسى الكلمات التي تدين هذا الانسان الحضاري الجديد والمتعطش للدم والقمع والتدمير.

وفي يقيني ان حرب العراق وقبلها حروب افغانستان والبوسنة والشيشان، هي حروب قذرة غير انسانية لم تسجل للاجيال السابقة والحالية سوى حقيقة مؤلمة وجارحة وغير مقبولة، هي سطوة القوة وانتصار الحديد على اللسان والموت على الحياة.

واخشى ما اخشاه ان تصبح القوة الغاشمة هي محور المجتمعات الحالية، تماما مثلما كانت في التاريخ الغابر عندما كان الاخ يقتل اخاه كي يأخذ لقمته من فمه!

فهل هو النفط ام الغرور الانساني ام الجنون ام هو التنحي عن مبادئ الديانات السماوية، ذلك الذي يقود هذا الانسان الحضاري الذي يعقد ربطة عنقه بكل اناقة وروية، ثم يوقع بيده وثيقة الفتك بالانسان والانسانية؟

انها سياسة القوة وسيطرة القوي على الضعيف التي نسميها شريعة الغاب حيث الذئب يسطو على الخراف.

نعم، لقد ادركت اليوم لماذا يطلقون على عصابات السياسيين الدمويين لقب «الصقور» وعلى محبي الحلول السلمية لقب «الحمائم» فالعصر اليوم هو هكذا بالذات. الصقور تنقض على الحمائم فتنهشها وتأكل لحمها وتطمس معالمها وتحتل اعشاشها!!

* مذيعة في قناة النيل الفضائية