لا يزال في الوقت متسع

TT

نحن مصابون بالإحباط. هذه حقيقة تقريرية يعرفها أبناء الجيل العربي المعاصر. والسبب لا يكمن فقط في الانكسارات والتراكمات الماضية، لكن أيضا،ً في المستقبل المجهول الذي لا يعرف كنهه الا الله سبحانه وتعالى. والأحداث الأخيرة في المنطقة وماحدث في العراق زاد خوفنا من المستقبل، وجعلنا أكثر توجسا منه. وإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإن الإحباط، الذي لازمنا طوال الأربعين عاماً الماضية، سيبقى فينا ما لم نتحرك لنفعل شيئاً إزاءه. وإذا استقرأنا التاريخ خلال هذه السنوات المذكورة، فإننا سنجده مليئاً بالحروب الداخلية، والمرارات والانقسامات، والهزائم، والتناحر السياسي، والتخلف الاقتصادي، والأحلام المتكسرة، حتى لو كانت على مستوى البرامج الاقتصادية التي لم تر النور، والتي لم تكن تركز أصلاً على المصالح الوطنية الكبرى.ونتيجة لكل هذا، فقدت الجماهير ثقتها في الأنظمة، وتفشى الفقر، وتحجرت العقول وانكسرت النفوس واستشرى الفساد.إن هناك مشاكل حقيقية في المنطقة وهي تحتاج إلى حلول، وعلينا قبل كل شيء أخذ هذا الأمر في الحسبان. من هذه المشاكل، بل وعلى رأسها، الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لفلسطين. ولم تكتف إسرائيل باستعمار أرض فلسطين الطاهرة بل عملت تقتيلاً وتنكيلاً بأبناء الشعب الفلسطيني على مرأى ومسمع، بل وبمباركة ودعم الولايات المتحدة الأمريكية راعية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم.وكان لزاماً علينا، إذا كنا جادين في السعي لحلحلة المشاكل، بالتالي البعد عن الإحباط، أن ننظر إلى هذه المشكلات ليس باعتبارها معوقات وصعوبات تستعصي على الحل، لكن باعتبارها تحديات يجب أن نجابهها، وباعتبارها، على وجه الخصوص، عقبات أمام تنمية وتحديث المجتمع ضمن إطار الشريعة الإسلامية السمحة. وعوضاً عن ذلك فعلنا العكس تماماً، وبدأنا نلوك الشعارات القديمة البالية، ونجتر إنجازاتنا الماضية وكأن حركة الحياة توقفت عند تاريخنا القديم.وإذا أرادت الدول العربية أن تتقدم، فعلى مثقفيها أن يكفوا فوراً عن التوقف عند التاريخ وإمعان النظر فيه وكأنه يحمل الحلول لمشاكلنا الحالية. بالطبع ليست هذه دعوة للتوقف عن استقراء التاريخ وأخذ العبر والدروس منه، لأن أمة بلا حاضر لا مستقبل لها، لكنها دعوة لعدم اتخاذ التاريخ تكأة نستند إليها في البحث عن الحلول للمشاكل الراهنة، ودعوة لدراسة التاريخ لأن من لا يدرس التاريخ محكوم عليه بأن يكرر نفس أخطائه. وتكمن مأساتنا بأننا كنا ننظر للتاريخ من طرف أعيننا بدون أن نتعامل مباشرة مع حقائقه الصعبة، وعندها فقط سنتمكن من مقابلة تحديات القرن الحادي والعشرين.وطوال الأربعين عاماً المنصرمة كان التركيز على التخويف السياسي، في الوقت الذي لعبت فيه الصحف ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في التعتيم، وفي إغماء العيون عن النظر إلى حقائق الحياة بكل قسوتها ومراراتها.هذا جعل الكثير من الناس يركنون إلى اللامبالاة وإلى عدم الاهتمام، بدلاً من أن يحاربوا من أجل حقوقهم. ولعل هذا الواقع هو الذي حدا بالطغاة أمثال صدام حسين، إلى العبث بمقدرات الشعب وإذلاله واضطهاده، بل إلى التطاول على الدول المجاورة. إن غياب القانون وانعدام المسؤولية والمحاسبة، والسلطة المطلقة، كلها عوامل تعيق أي تقدم اقتصادي أو اجتماعي. وهكذا، فبينما تطورت الدول والشعوب الأخرى، أصبحنا نرزح تحت وطأة التخلف مقتنعين بوضعنا في مصاف العالم النامي، أو دول العالم الثالث. ودول مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، إذا لم نذكر اليابان، قطعت شوطاً طويلاً، بل قفزت قفزات كبيرة نحو النمو والتطور، علماً بأنها خرجت من الحرب العالمية الثانية والحروب الإقليمية الأخرى محطمة ومنهارة. وقد خرجت هذه الدول من رماد الحطام لتبني المجد لنفسها والرخاء لشعوبها. والآن ومع سقوط أحد الطغاة، فان الفرصة مواتية أمام رياح التغيير في المنطقة العربية، سيما والدول العربية لا تزال فتية، وشعوبها التي تدرك المسافات التي قطعتها الدول والشعوب الأخرى، لا يمكن أن تقف متفرجة، وبالتالي فهي متحفزة للسير على طريق التقدم والازدهار. إن الشعوب العربية تتطلع نحو الحرية والكرامة الإنسانية، وإلى إيجاد الآليات التي يمكن أن تقيها ضد الاضطهاد والقهر الذي يمارسه أمثال حزب البعث في العراق. إنهم يريدون الحكومات التي تحمي حقوق الإنسان، وتحقق الحرية والعدالة والمساواة التي هي محور القرآن والسنة. إنهم يريدون المجتمع المتسامح والحر الذي تمثل فيه كل التيارات ووجهات النظر. إنهم يريدون المركبة التي يمكن أن تزيح مخلفات القرون الوسطى التي سببت الركود والتأخر .وإذا كنا نريد الوصول إلى مثل هذه المجتمعات، فإننا لا يمكن أن نحقق ما نريد من خلال لوم الآخرين على من نحن فيه من قصور، لكن علينا بدلاً من ذلك أن نرتقي إلى مستوى الحدث، وان ننظر إلى أنفسنا طويلاً وعميقاً، وأن نسمي الأشياء بأسمائها. وعلينا ألا نخذل الأجيال القادمة بأن نترك لهم إرثا من المجتمع الممزق المنقسم والديون المتراكمة وأنظمة التعليم التي تخرج الببغاءات التي تردد ما تسمع. إن من حق هذه الأجيال علينا ألا نترك لها مجتمعاً ينزوي عند أول مشكلة أو يحل مشاكله عبر الانكفاء على التاريخ. ولعل أول خطوة تجاه معالجة التخلف في مجتمعاتنا، هي أن تنظر شعوبنا إلى ما حققته الشعوب الأخرى في سنوات قليلة وبإمكانات بسيطة، خاصة وأن البون شاسع بين ما نحن فيه وما يجب أن نكون عليه.ورغم كل هذا، فما يزال في الوقت متسع للتدارك والعلاج والإصلاح. فقط علينا أن نواجه التحديات وأن نركز على التنمية البشرية وتنمية العلوم والتكنولوجيا، وأن نبني اقتصادنا في جو من الحرية والعدالة والسلام .إن الوقت قد حان لكي نتعلم من دروس الماضي وأن نعتبر من عظات التاريخ.

*رئيس تحرير جريدة «عرب نيوز»

almaeena@arabnews.