آن الأوان لحسم الصراع العربي ـ الإسرائيلي

TT

جان دورميسون هو احد كتاب فرنسا المخضرمين حاليا، فقد اوشك على الثمانين ولكنه لا يزال ناشطا وفاعلا في الساحة الثقافية والسياسية، وهو أحد اعمدة جريدة «الفيغارو» منذ اكثر من ثلاثين عاما ومن وقت الى آخر يتدخل على صفحاتها للتعليق على الاحداث الكبرى من محلية او دولية. وقد بقي صامتا طيلة الازمة الاخيرة، فلم ينبس ببنت شفة حتى انتهت المعركة، وذلك على عكس المثقفين الفرنسيين الآخرين. والواقع ان الرجل اصبح حكيما بعد ان علمته التجارب كثيرا، وكذلك التقدم في السن، ولكنه عندما يتحدث يقول شيئا له معنى ويقدم خلاصة قيمة عموما.

في الواقع ان جان دورميسون الذي ينتمي الى عائلة ارستقراطية كبيرة والمقرب من اليمين الديغولي كان دائما له رأي في مشكلة الشرق الاوسط، وهو رأي جريء او حر نسبيا اذا ما قسناه برأي معظم مثقفي الغرب المُستعبدَين من قبل الدعاية الاسرائيلية، فهؤلاء يرددون كالببغاوات ما تقوله الاوساط الصهيونية الى درجة اننا نعتقد انهم قد اصيبوا بعملية غسل الدماغ فعلا.. والانكى من ذلك هو ان هذا الشيء يحصل في بلاد ديمقراطية تُضمن فيها حرية التعبير لا في بلاد استبدادية او توتاليتارية!..

قبل ان ادخل في صلب الموضوع سوف اقول ان دورميسون هو اديب بالدرجة الاولى، انه يعشق الادب الى حد الوله. وهناك متعة حقيقية في ان تسمعه يتحدث على شاشة التلفزيون الفرنسي عن شاتوبريان مثلا او فيكتور هيغو او بلزاك او رامبو.. الخ. انه يعرف التاريخ الادبي الفرنسي وكذلك تاريخ السياسة والملوك، كما تعرف افراد عائلتك او ابناء حارتك.. وعندما سأله احدهم مؤخرا: لو خيروك في ان تكون ديغول في مجال السياسة او مارسيل بروست في مجال الادب، فما الذي تختار؟ اجاب فورا: بروست، بروست! ذلك ان مملكة الادب تعلو ولا يعلى عليها بالنسبة لهذا الكاتب الذي يحسد شاتوبريان على كتابه «مذكرات ما وراء القبر» او فيكتور هيغو على «البؤساء» او فلوبير على «مدام بوفاري».. فالروائع الادبية تبقى خالدة على الزمن ولا يستطيعها الا القلائل. ومن يستطيع ان يكتب رواية في حجم «بحثا عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست؟ من يستطيع ان يعانق الادب او ينصهر به الى مثل هذا الحد؟

لكن لنعد الى السياسة والى رأي جان دورميسون في قضايا الشرق الاوسط بعد الزلزال الاخير. في رأيه ان الاميركان نجحوا نجاحا باهرا في ضربتهم الاخيرة، فقد كذَّبوا كل التنبؤات السلبية التي اتت من جهة الاوروبيين والتي كانت تقول انهم سوف يغرقون في المستنقع العراقي، وسوف يخوضون حرب شوارع في بغداد وسوف تسقط الضحايا المدنية بعشرات الآلاف او حتى مئات الآلاف!.. كل هذا لم يحصل لحسن الحظ.

ولكن ما نفع هذا الانتصار العسكري الواضح ان لم يترجم الى انتصار سياسي؟ وهل يمكن ان يكتمل بدون ان يرافقه حل جذري لمسألة الصراع العربي ـ الاسرائيلي؟ ألن تعود المنطقة الى الفوضى والزعزعة بعد انتهاء الحرب ان لم تحصل تسوية موفقة لمشكلتها الجوهرية؟

هذه هي الاسئلة التي يطرحها الكاتب الفرنسي. صحيح انه يعترف بان تحرير الشعب العراقي من النظام القديم القائم على البطش يعتبر نتيجة رائعة بحد ذاتها، ولكن لكي تكتمل هذه النتيجة الايجابية ينبغي ان تحسم المسألة المركزية التي تسمّم كل منطقة الشرق الاوسط منذ اكثر من نصف قرن.

وهنا توجد فرصة ذهبية امام بوش وكولين باول لكي يحسما هذه المشكلة الرهيبة التي استعصت حتى الآن على كل حل او علاج، وعندئذ تستتب الامور فعلا في منطقة الشرق الاوسط ويبتدئ تاريخ جديد. واما اذا تركا هذه الفرصة السانحة تفلت من ايديهما فانهما يكونان قد قاما بحرب شبه مجانية! وهذا خطأ فاحش لن يغفره التاريخ لهما. فالظروف لم تكن مناسبة في اي وقت مضى لحسم هذا الصراع، مثلما هي مناسبة الآن.

لا ريب في ان الامبراطورية الاميركية اصبحت مهابة ومحترمة على مستوى العالم كله بعد الضربة الاخيرة، ولكن القوة وحدها لا تكفي واميركا لا يمكن ان تكسب القلوب والعقول، الا اذا ارفقت القوة بشيء آخر كانت تمتلكه ايام الآباء المؤسسين الكبار: اي الكرم والعطاء وحب الآخرين، فقيم الحرية والديمقراطية والنزعة الانسانية لا يمكن ان تنتشر في المنطقة العربية او الاسلامية الا اذا اثبتت اميركا انها وفية لهذه القيم بالذات!

وكيف يمكن ان تثبت انها وفية لها اذا لم تفعل شيئا ما للقضية الفلسطينية؟

بالطبع فان جان دورميسون لا يطرح السؤال بهذه الطريقة لكيلا يزعج اصدقاء اسرائيل اكثر من اللزوم، ولكنه يتحدث صراحة عن ضرورة القيام بخطوة حاسمة من اجل القضية المشروعة المتمثلة بما يلي: تأسيس الدولة الفلسطينية، وهو يوضح الشرط الدقيق لتأسيس دولة فلسطين المقبلة عن طريق مقايضة المستعمرات بنهاية العمليات الانتحارية داخل اسرائيل، وكذلك عن طريق اضعاف حماس وحزب الله من جهة، ثم الصقور الاسرائيليين والمتطرفين من جهة اخرى. ويأمل جان دورميسون بظهور «ديغول اسرائيلي» قادر على تفكيك المستوطنات والانسحاب من الاراضي الفلسطينية، وعندئذ يصبح السلام ممكنا جدا، وينتهي اكبر صراع في تاريخ القرن العشرين. ومعلوم ان ديغول تجرأ على الانسحاب من الجزائر ضد رغبة الشعب الفرنسي تقريبا او على الاقل شريحة كبيرة منه، وكاد يدفع نفسه ثمنا لتلك الجرأة، فقد تعرض لثلاث محاولات اغتيال خطرة وفي احدى اللحظات اهتز على الرغم من شرعيته وهيبته التاريخية وصرخ على شاشة التلفزيون الفرنسي قائلا: ايها الفرنسيون ساعدوني! فاليمين المتطرف الفرنسي كان قويا وشرسا، وقد احمرت عينه على ديغول اكثر من مرة.

فهل سيفعلها بوش؟ هل سيوافق على قيام دولة فلسطينية حقيقية وينهي المسألة من اساسها، ام انه سوف يستسلم لرغبات الصقور في اسرائيل (وفي اميركا ذاتها)؟ هذا هو السؤال المطروح بالحاح الآن. وبناء على حسم هذا السؤال سوف تحسم قضية الشرق الاوسط في هذا الاتجاه او ذاك.

وكل ما نخشاه هو ان ينتصر الاتجاه الثاني: اي ان يعتقد بوش بان اذلال العرب اكثر هو الطريقة الوحيدة لاخضاعهم! انه عندئذ يقامر بكل نجاحاته وانجازاته في العراق، فسياسة القوة بدون عدل ـ او الحد الادنى منه ـ مصيرها الفشل عاجلا او آجلا.

بالطبع فان مقاومة الشعب العراقي لكل محاولات التفكيك وزرع الفتنة بين العرب والاكراد او بين السنة والشيعة سوف تحبط المشروع الصهيوني الهادف منذ عام 1956، اي منذ ايام شاريت وبن غوريون، الى تفكيك المنطقة كلها على اساس عرقي او طائفي، وقد ادهش هذا الشعب المتألم الصابر كل المراقبين بوعيه الوطني وانسانيته وتعاليه على جراحاته. وقد قرأت مؤخرا في جريدة «اللوموند» تحقيقا عن اهالي بغداد وكيف ان الشاب السني مستعد للذهاب الى المسجد الشيعي للصلاة فيه والعكس بالعكس وهذا يبشر بالخير ويطمئن على ان الفتنة لن تمر فبوركت يا شعب العراق!

واخيرا كنت اتمنى الا ينسى جان دورميسون «الديغول الفلسطيني» الذي هو موجود على عكس الجهة الاسرائيلية، انه ياسر عرفات المحاصر في رام الله بشكل مخجل للجماعة الدولية بأسرها والآن اصبح مزودا برئيس وزراء شرعي هو ابو مازن، فهل سينتهز الغرب الفرصة لتوقيع اتفاق تاريخي معه قبل فوات الاوان؟ هل سيدرك ان ياسر عرفات بهيبته التاريخية هو وحده القادر على حسم القرار الصعب وانه لا يمكن لاي قائد فلسطيني بعده ان يتحمل مسؤولية مثل هذا القرار؟