مفلسون وحالمون

TT

إذا كنت ما تزال من المشككين بالانقراض في حال بقيت الذهنية العربية على ما هي عليه، و تعتقد أن احتلالاً طيب القلب هنا، وإصلاحاً تجميلياً سياسياً صغيراً هناك، وترقيعاً اقتصادياً في مكان آخر، هي من الأمور الناجعة التي بامكانها أن تحول دون الكارثة، فاقرأ نتائج التقرير الصادر عن «المعهد الفرنسي للدراسات الدولية»، حول «التجارة العالمية في القرن الحادي والعشرين»، الذي ينذر بخروج أوروبا بعظمتها من التاريخ قبل منتصف القرن الحالي، بسبب نموها الاقتصادي الذي هو آخذ بالتراخي، فما بالك بالعالم العربي.

ولما كان الفوز في صراع البقاء بالشروط الجديدة حكراً على بعض النشطين والديناميكيين والمتكلين على قدراتهم وحنكتهم الذاتية، فإن دول شرق آسيا، وتحديداً الصين، هي المؤهلة للوقوف مستقبلاً في وجه المارد الأميركي بحسب ما نشرت صحيفة «لوموند» منذ أيام. وبما أن المجتمعات العربية ما تزال تتحرك بقوة المؤامرة وكرد فعل عليها، فقد شاع بين اللبنانيين ان أميركا دست مرض «سارس» للصينيين لضرب اقتصادهم وشل قواهم وعزلهم عن بقية العالم عقاباً لهم على اجتهادهم . وبهذا تكون الألمعية العربية مصرّة على أن أميركا إما أن تكون العائق أمام كل تقدم، أو هي الأداة التي لا بد من بركتها لإحرازه. والنتيجة في الحالتين أن استنهاض الهمم ليس مطروحاً بجدية، والميل هو لجلب أوصياء أقوياء يرشدوننا إلى سواء السبيل، أو في أحسن الأحوال، التقرب منهم وتملقهم لتجنب ثأرهم وشر غضبتهم.

وهناك ما هو أسهل وأنجع، ففي الكتب التي طلقناها طلاقاً بائناً لكل دواء علة. ومما نجده فيها دراسة أعدها البنك الدولي تقول صراحة: «ان التربية في المدارس الابتدائية أهم عنصر منفرد على الإطلاق من العناصر التي تفسر المعجزة الاقتصادية الشرق آسيوية». فالتربية المتنورة توفر للفرد الأدوات اللازمة ليصبح إنساناً قادراً على إدراك إنسانيته وحقوقه.

وثمة دراسة أخرى تعلمنا أن 65% من الناتج العالمي يعود إلى العنصر البشري لا إلى المواد الخام، وهو ما يفسر عطش العراقيين وهم على ضفاف نهرين عظيمين، وتزايد ديون العرب وإفلاسهم وهم يعومون على بحار نفط يسيل لها لعاب البشرية. وبالتالي، فإن ما هو موجود في مجموع المصارف العربية يساوي ما هو متوفر في مصرف واحد في ألمانيا ـ كما تقول الإسكوا ـ ولا تشكل صادرات العرب سوى 4% من الصادرات العالمية، والميل العام صوب الاعتماد على الخارج بحيث يدفعون 7 مليارات دولار سنوياً لاستيراد موادهم الغذائية، ولا مصلحة لك في الاطلاع على المبالغ الخيالية التي تصرف على العطور والزينة والملابس والنثريات الكمالية فهذه ستصيبك بضربة نفسية قاضية.

ولكن بالعودة إلى الدول الآسيوية، جدير بالذكر أن عديداً منها حققت إنجازات اقتصادية هائلة، رغم أن سلطاتها تعتبر تسلطية ومطعوناً في ديمقراطيتها، غير أنها أفلحت في تحقيق الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي العادل لمواطنيها، وهي خطوة جبارة لا بد، في نهاية المطاف، أن تنتهي إلى ديمقراطية ذات صيغة ثابتة ومستدامة لأنها بنت كياناتها على الإنسان وعقله وتنمية إمكاناته.

وعلى عكس ذلك ديمقراطياتنا الوليدة العرجاء التي بدأت من النهاية وتجدها تتباهى ببرلمانات على مد عينك والنظر، لا تملك سوى حق التصويت للحاكم عينه وللنظام نفسه وتمنحه الشرعية وتسحب من تحت أرجل الناس حقوقهم واللقمة من أفواههم، بينما تكتظ المعتقلات بسجناء الرأي، وحالياً، بامكانك أن تضيف إليهم سجناء الإنترنت الذين يتسللون عبر الشبكات إلى ما لا تريده إرادات الحكام. وفوق كل هذا لا تنمية ولا تربية ولا أبحاث علمية أو ضمانات اجتماعية أو صحية. ومع عشرات ملايين العاطلين عن العمل من العرب، وعشرات آلاف الكفاءات العلمية التي يتم تصديرها سنوياً، وهبوط مستوى دخل الفرد حتى في الدول النفطية، فإن الكلام على الديمقراطية، من حيث هي مؤسسات سياسية وصناديق اقتراع ومقترعون جائعون أو محبطون أو يائسون، هو ذر للرماد في العيون .

والهيئات الدولية التي تحترم نفسها تحذر هذه الديمقراطية «الخنفشارية» بعكس بعض المؤسسات المسيسة الأخرى، التي تصف بالحرية دولاً عربية تتحسس رقبتك لحظة تحط طائرتك في مطاراتها، والأجدى، والحالة هذه أن تكون الدراسات محلية وموضوعية وهو مما لا يزال عصيا.

بديهي أن يدافع العاقل عن الديمقراطية، ولكن كيف ذلك والأمم المتحدة تعتبر في تقرير لها «أن الدول العربية نهاية القرن الماضي سجلت مستوى في انعدام الحرية هو الأكثر انخفاضاً في العالم " وتقدمت عليها دول مثل السنغال وبنما وأفريقيا الجنوبية».

وما تقدم لا يعني أن الأبواب موصدة بالخالص، لكن الخروج من المستنقع يستدعي أولاً القيام بمسح شامل لتوصيف الحالة بموضوعية ووفق نهج أكاديمي ومن ثم وضع خطة علمية للسير على هداها، يكون جوهر اهتمامها الإنسان، بهدف تحويله إلى مواطن صالح وفاعل، بحيث إذا ما ناديته إلى صندوق الاقتراع أتاك بعقله ووجدانه وضميره، لا باسم عشيرته أو ناطقاً بارادة هذه الطائفة أو تلك العصابة الحزبية.

وبانتظار أن نبدأ الخطوة الأولى الصحيحة في رحلة الألف ميل نود أن نذكّر فقط أن مراكز الأبحاث العلمية المستقلة القادرة على وضع مشروع يستطيع أن يقف على رجلين سليمتين هي بحكم المغيبة. والمعلومات تشير إلى أن حصة الفرد العربي من الإنفاق على البحث العلمي والتطوير لا تتعدى الدولارين في السنة، فهل ثمة نية حقيقية وترجمة عملية لمكافحة خطر الانقراض، ومن ثم الشروع في حلم الديمقراطية العفية ؟

[email protected]