العراق بين الاحتلال الأميركي والاستعمار الداخلي

TT

دخل الأستاذ إلى الصف وتوجه إلى الطلبة من ذكور وإناث وقال: هل هناك أحد غير حزبي في الصف؟ فرفع ثلاثة من الطلبة أصابعهم كان أحدهم (طالبة). قال الأستاذ: إذاً سوف نوزع عليكم استمارة الانتساب للحزب. وفي اليوم التالي كان الطلبة الذكور قد نالوا الحظوة بالانتساب للحزب القائد، وبدأوا بقراءة ترانيم الصباح من إنجيل القائد إلى الأبد. وبقي في الفصل متمرد واحد (أنثى) تشبثت بموقفها أنها لن تنتسب للحزب. سألها الأستاذ: لماذا لم تنتسبي للحزب؟ اجابت الطالبة بسؤال: هل الانتساب للحزب إلزامي؟ ارتبك الأستاذ، وابتسم ابتسامة صفراء وقال: بالطبع ليس الانتساب إلزامياً. ولكن الانتساب للحزب يمنحك العديد من المزايا، من تأمين الوظيفة ودخول الجامعة وفتح الدكان ونيل جواز السفر؟ أصرت الفتاة على موقفها وقالت: لن انتسب للحزب. طلبها الأستاذ على انفراد وقال لها: اصدقيني الخبر، فإن كان والداك قد مارسا ضغطاً عليك فلسوف نتولى أمرهم؟! قالت: لا.. ووالداي تركا لي حرية الاختيار وأنا اخترت أن لا أنتسب للحزب، طالما كان الانتساب للحزب غير إجباري؟ ارتبك الأستاذ هذه المرة أكثر، وبدت على وجهه علامات الغضب، فلم يواجه حالة استعصاء نادرة في عقول الشبيبة التي يغسلونها على مدار الساعة. فأحال المسألة برمتها إلى مدير المدرسة كي يعالج هذا التمرد الخطير. وفي اليوم الثالث استدعى المدير الطالبة وأكرمها بمقعد وثير وابتسامة عريضة وتهليل مجيد، ثم فتح فاه فقال: أنت من خيرة الطالبات ونحن نبني عليك الآمال، والحزب القائد يتطلع إلى أن تنتسبي إليه وتشاركي في النضال بين صفوفه. سكتت الطالبة هنيهة والمدير يتأمل تعبيرات وجهها. وأجابت بهدوء: هل الانتساب للحزب إجباري؟ صعق المدير وأجاب بانفعال وقد ارتفعت طبقة صوته: لا.. لا.. بالطبع ليس إجبارياً.. ولكن، ثم بدأ يعدد إنجازات الحزب والقائد. وعندما ختم ديباجته، قالت الفتاة باختصار وإصرار أكثر من الأول، طالما كان الانتساب للحزب ليس إلزاميا فلن انتسب للحزب.

هذه.. اللا... اللعينة أحدثت إرباكاً في إدارة المدرسة، ورأوا فيها بادرة تمرد خطيرة من طالبة تافهة؟ عندها انتقلوا إلى الوعيد والترهيب فكانت النتيجة نفسها. وكانت جملة «هل الانتساب للحزب إجباري؟» معادلة صعبة ليس لها حل في رياضيات الحزب. فلما سقط في أيديهم، اعتبروا أن عقل الطالبة قد تسمم. وأن خلفيتها بورجوازية. وأن تربيتها عفنة رجعية. وتركوها على أمل اغتصاب إرادتها في مناسبة أخرى.

إن بركات الحزب كثيرة ولكن تنقصه مزية واحدة تمحق كل بركاته وهي حرمان الإنسان من (الاختيار). وبها يخسر الأبعاد الثلاثة له كإنسان: «الاستقلالية والإرادة والتفكير». ليتحول إلى كائن ممسوخ.

بكلمة مختصرة، انها الغاء الإنسان وتحويله إلى نكرة مصنعة بيد مافيا دينية وسياسية. ولن ينصر الله مجتمعا وثنيا على مجتمع هو أقرب للتوحيد. وهذا السر أن العالم الإسلامي كب على وجهه. واحتلت أمريكا العراق. وفي ارض النمرود رأينا مصنعاً لإنتاج تماثيل صدام. وهو ليس الوحيد في غابة العربان. وفي كثير منها لا تدخلها إلا والأصنام مشرعة من صور شتى وتماثيل منتصبة.

يمتاز (الاحتلال) الاميركي بأنه: (واضح) و(مؤلم) و(مقاومته سهلة) وهو في هذا يشبه (الدمل) الخارجي. أما الاستعمار (الداخلي) فهو: (خفي غير مؤلم) و(مقاومته معقدة) والتخلص منه ممكن في مراحله الأولى وهو في هذا يشبه (السرطان).

وكلا المرضين من (الدمل) و(السرطان) يحتاج للمعالجة. وكلاً من المرضين يعني أن جهاز (المناعة) الداخلي ليس على ما يرام. ولكن (الخراج) ينتج عن هجوم جرثومي خارجي. أما السرطان فهو تسلل للكود الوراثي للخلية. وعندما استأصلت اميركيا (سرطان) صدام فهي ازالت ورما خبيثا مع انتشار السرطان. كما في سرطان المعدة وانتشاره إلى الكبد والدماغ. وهذا هو التحدي في وضع العراق في الحقبة الاميركية.

وعندما ينتشر (السرطان) يتحول البلد إلى (النظام الشمولي) وتصبح كل معالجة داخلية غير ممكنة. كما حدث في ألمانيا الشرقية عندما قامت بانتفاضة تم سحقها ولم يكتب لها الخلاص حتى نضجت الأوضاع بتحلل النظام الديكتاتوري السوفياتي.

وهلاك الأنظمة يخضع (لقانون التاريخ) كما حدث في العصور الجليدية. فلم يكن للجنس البشري أن يتكاثر ويدخل (الحضارة) قبل انكسار (العصر الجليدي). وفي الظروف الديكتاتورية ينكمش (الفرد) إلى (رقم) ويحافظ على وجوده كما تفعل الحيوانات في السبات الشتوي إلى حين قدوم الربيع كما حدث مع ربيع العراق.

فهذا الانقلاب في الفصول والتبدل في العصور (الجيولوجية السياسية) هو الذي يغير الأحوال أكثر من عمل الأفراد والانتفاضات الشعبية.

وفي العراق وغير العراق تصل الأمور إلى وضع الاستعصاء كما يحصل مع انتشار السرطان. وما يحتاجه للعلاج هو إما المعالجة (الشعاعية) بالحرق بصواريخ كروز أو الجراحية ببلطة توما هوك كما حدث مع سقوط الضحايا المدنيين في اجتياح العراق الدموي.

ويجب أن نعترف بحذق الجراح الاميركي. فقد أنهى العملية بنزف قليل. ولكن مشكلة مريض (الجراحة) هو في مرحلة ما بعد الجراحة بتورطه بالاختلاطات الجراحية وهو الذي ينتظر العراق.

عندما سأل قوم موسى نبيهم أن العذاب لم يتغير مع قدومه، نبههم إلى (العلة الأساسية) وهي أن زوال العدو لا يعني زوال المرض. «عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون». بدليل أن بني إسرائيل بمجرد خروجهم من العبودية فإن العبودية لم تخرج من قلوبهم. وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم.

وبمجرد أن رأوا أناسا يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؟ قال إنكم قوم تجهلون؟

جاءني ثلاثة شبان رأوا أن اعظم الجهاد هو قتال الأميركيين. قال أوسطهم: المجاهدون كانوا يدافعون عن العراق أكثر من صدام. قلت له: كلامك نصف صحيح. فهزيمة الأميركان تعني نجاة صدام وعصابته. ومثلنا مثل الطبيب الذي يواجه مريضا اصيب بفصيلتين من الجراثيم. فإن قضى على العصيات المكورة الأمريكية نجت العصيات العنقودية الصدامية. ولو كان الطبيب حاذقاً واستخدم صاداً حيوياً يقضي به على كلا الفصيلتين لكان حسناً. ولو كان الشعب مهيأ لثورة تتخلص من صدام وبوش لتحرر حقاً. ولكن الصاد الحيوي الذي يقضي على فرقة جرثومية يحافظ على الفرقة الأخرى. فإن هزم صدام تم احتلال العراق من الأميركيين. وإن هزمت اميركا حكم صدام وعائلته العراق 170 عاماً أخرى، فهي معادلة ثنائية صعبة؟! هذا إن تُركت الأمور لفعل قوانين الطبيعة. فالنهر يشق مجراه في قرون، ولكن تغيير مجراه بإقامة أعتى السدود لا يحتاج أكثر من عشر سنوات. فهذا هو الفرق بين عمل الطبيعة وتدخل القوى الإنسانية كما حصل مع التدخل الاميركي في العراق؟ وهو لا يعني ترحيبا بالأميركي أكثر من استعراض مجرى قانون التاريخ. فالشعوب كما يقول عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) عاشت تحت الظلم قرونا كثيرة. والفقر لم يكن قط فتيل الثورات. وإن كان العراق نجا نصف نجاة فغيره في الذل المقيم. وقطع رأس صدام لا يعني القضاء على انتشارات السرطان. وفي إيران تحول السافاك إلى ساماك بعباءة خضراء. وفي قصة مدينتين لشارلز ديكنز نعرف أن الجاسوس أصبح سيد الثوريين. وفي شمال العراق صرخ رجل الاستخبارات السابق أنه جاء لخدمة الشعب. وباول حارب المسيحيين ثم أصبح موضع الوحي.

مع هذا فإن مشكلة الطغيان السياسي مع قوانين الحياة أن الروح تتغلب على عطالة قوانين المادة. وهذا الذي يعطي الأمل في انعتاق الروح الانسانية. ولولا هذا لتفوق الموت على الحياة والسكون على الحركة. وهناك من يظن أن ديكتاتوريات المنطقة سوف تفكر على نحو عاقل فتغير أوضاعها. وهذا ضد قوانين الطبيعة. وكل الطغاة كرروا نفس المقولة، غيري ليس مثلي وأنا شاذ على القانون. حتى فوجئوا بمنجل التاريخ يطيح برؤوسهم. فقطع دابر القوم الذين ظلموا وقيل الحمد لله رب العالمين.