رسائل إيرانية

TT

تبحث ايران في رمال العراق المجاور عن طريق ثالث لها. الطريق الذي لا يبدو تأييدا لـ«الشيطان الأكبر» الذي دمر لها عدوها الاكبر، ولا يبدو ايضا معارضة له، بعدما قدم لها هديتين ذهبيتين: صدام حسين، ومجاهدي خلق. وتسعى طهران الى ابلاغ الأميركيين رسالة واضحة حول نقاط الالتقاء في سياسات المنطقة وتطلعاتها. وقد بعثت بهذه الرسالة عبر مقال نشره السفير الايراني لدى الأمم المتحدة جواد ظريف في الـ«نيويورك تايمس» كتب بلهجة بعيدة جدا عن اللغة الثورية الشائعة، وبتعابير ديبلوماسية، بعكس التعابير الفوارة السائدة. ويقول السفير ان «ثمة اجماعا دوليا على ان الاستقرار والاعتدال في المنطقة يمثلان ضمانة محورية للأمن والرخاء العالمي». ويقول انه «ليست لايران مطامح اقليمية، وهي تفضل اقامة علاقات قوية مع الجيران، وتؤمن بأن الوقت قد حان لاقامة ترتيبات محلية مكفولة دوليا للأمن الاقليمي تحت اشراف الأمم المتحدة».

لهذا الكلام وقع مختلف جدا عن ذلك الاندفاع الذي بدأت به الجمهورية الاسلامية علاقاتها او خطابها السياسي مع دول الجوار. والقبول بـ«اشراف الأمم المتحدة» يشبه القبول بشيء من النظام الأميركي في الظروف الدولية الراهنة من دون اعلان ذلك، بل هو حوار غير مباشر مع واشنطن او دعوة الى الحوار. ذلك ان السفير لا يلبث ان يقول «ان ايران تدرك ان تطوير الاسلحة النووية وغيرها من اسلحة الدمار الشامل لا يساهم في دعم أمنها»! ولكن ماذا عن القوة الضاربة المستقلة؟ ماذا عن التوازن الذي تسعى اليه، وفي فكرها تركيا وأفغانستان؟ وطبعا اسرائيل؟

هذا امر مؤجل الآن. وبدل ذلك يمد السفير ظريف يد التعاون في وجه عدو واحد: «ان تصاعد مد التطرف يمثل تهديدا لايران بقدر ما يمثل تهديدا للغرب. فحتى قبل 11 سبتمبر بوقت طويل «حاربت ايران ضد «طالبان» واسيادهم في تنظيم «القاعدة» (...) وقدمت مساعدات حيوية للتحالف الشمالي قبل هزيمة طالبان». ولكن السفير يتوقف مستدركا، بأنه «رغم اننا ساهمنا بنصيب وافر في هزم التطرف الا اننا في الوقت نفسه لا نوافق على الكثير من التكتيكات التي تلجأ اليها أميركا في هذا المجال».

فلنعد قراءة الجملة الاخيرة جيدا: برغم اننا «ساهمنا» بنصيب وافر في «هزم التطرف» الا اننا في الوقت نفسه لا نوافق على «الكثير» من «التكتيكات» التي تلجأ اليها أميركا في هذا المجال. لقد ساهمت ايران، اذن، في إلحاق الهزيمة بالعدو المشترك: التطرف وهي لا ترفض لكنها «لا توافق» على «الكثير» من الاساليب الأميركية، وليس على السياسات او الاستراتيجيات. انها مجرد «تكتيكات» وما عدا ذلك فالدعوة مفتوحة الى حوار حول المنطقة والجوار. ولا ينسى السفير التحدث عن «الشفافية الايرانية» في موضوع اسلحة الدمار الشامل، والتزام ايران المعاهدات والمواثيق الدولية في هذا الشأن.

واضح ان المقال هو خطاب سياسي كتب في مكتب وزير الخارجية الايراني وليس في سفارة ايران لدى الأمم المتحدة. فهذا بيان سياسي حكومي يلقيه عادة رئيس الدولة في مناسبة وطنية او دولية، وليس مقالا يكتبه السفير لدى الأمم المتحدة في مناسبة «انتهاء» حرب العراق. وكان الرئيس ياسر عرفات قد اختار المنبر نفسه في الماضي لكي يوضح للغرب عرضه النهائي في ما يقبل وما يرفض في مسألة الوجود الفلسطيني.

هناك تغيير ايراني واضح حيال التعامل مع أميركا اتضح جليا في أفغانستان حيث تصرفت طهران كحليف غير معلن في حرب ضد عدو واحد. ولكن الآن التغيير في العراق ليس تغييرا في أفغانستان. ليس تغييرا في الجوار بل في جوهر المنطقة. وعندما يقول السفير الايراني انه ليس لبلاده «مطامح» في الجوار فهو يبعث برسالة متعددة الجهات كتبت على نسخات كثيرة، وان كانت مرسلة على عنوان البيت الأبيض الذي يحتكر وحده تسلم الرسائل الآتية من الخارج، مع اشعار بالوصول.