أفكار مشبوهة في هجاء الأمة.. وتسويق الهزيمة

TT

وسط الهرج السائد في الساحة العربية تعرض علينا بين الحين والآخر أفكار مشبوهة ومغلوطة تحتاج الى تحرير وضبط. سأكتفي هنا بالوقوف أمام ثلاث من تلك الأفكار، أولاها متعلق بتوصيف الصراع القائم، والثانية تركز على هجاء العرب بزعم انهم مولعون بالمستبد القومي، والثالثة تطالب بتطبيق نموذج اقتلاع النازية، الذي اتبع مع المانيا في العالم العربي.

الفكرة الأولى التي عرضها أحدهم ترى ان ما يجري في المنطقة هو في جوهره صراع بين ثقافتين: الأولى عالمية تهدف الى دمج الشرق الاوسط في قيم حكم القانون والديمقراطية وحقوق الانسان وحرية السوق، والثانية هي ثقافة «الاحتراب» مع العالم، ورفض الدخول في ثقافته احتماء بالأصولية الدينية المسلحة أو الأفكار القومية المتشددة.

أكرر هنا ان هذا الكلام نشر في بعض صحفنا العربية «المحترمة»، وصدر عن أناس ممن ابتليت بهم هذه الأمة، وصارت لهم في زمن الهزيمة والانحطاط أصوات تسمع ومواقع تفرض على الناس لأسباب بعيدة عن البراءة. والفكرة كما رأيت تحاول تشخيص الوضع الراهن، الذي لاتزال أصوات أخرى تتساءل عن تكييفه، ببلاهة مصطنعة، هل هو تحرير أم غزو، وما نحن بصدده هنا ليس بعيدا عن هذه الدائرة لأنه يضع الغزو في الدائرة الأولى، حيث يتم التستر عليه بزعم انه يندرج ضمن ثقافة دمج الشرق الاوسط في كذا وكذا وكذا، أما رفض الاحتلال ومقاومته، فقد دخلا في الدائرة الثانية، المسكونة بالأصولية الدينية المسلحة والفكر القومي المتشدد، ولا غرابة في ذلك، فأصحاب تلك الأصوات المشبوهة هم الذين أطلقوا وصف «الحربجية» على المقاومة الفلسطينية الباسلة للاحتلال الاسرائيلي ـ الذي هو عندهم يدخل في الدائرة الأولى ـ وعلى من أيدوا نضالها ودافعوا عن العمليات الاستشهادية التي يقوم بها الشباب الفلسطيني ضد الاحتلال.

لم يخطر لي أن أناقش هذا الكلام، فهو يعبر عن موقف مفضوح لا يحتاج الى تفنيد أو رد، وظاهر للعيان مقاصده والطرف المستفيد منه وذلك الذي سوقت الفكرة لحسابه، لكنني أردت بالاشارة إليه ان أثبت واقعة التَلَبُّس من ناحية، وان اذكر من ناحية ثانية بأن الذين باشروا الغزو كانوا أكثر وضوحا وشجاعة، حين صرحوا (كولين باول وزير الخارجية الاميركي مثلا) بأن للغزو أهدافا ثلاثة هي: الاول اسقاط النظام العراقي نظرا لخطورته وحيازته لأسلحة الدمار الشامل، والثاني: اعادة رسم خرائط المنطقة بما يتفق (يخدم أدق) مع المصالح الاميركية، أما الهدف الثالث فهو انهاء الصراع العربي الاسرائيلي.

لم يقل الرجل كلمة واحدة عن حكاية القانون والديمقراطية وحقوق الانسان، وغير ذلك من الأوصاف والرتوش التي أضافها الاتباع والمهرجون وغيرهم من «المتعاونين» (!) والمزايدين على الولاء لواشنطن، وهم المولعون بأن يقدموا لسادتهم أكثر مما يطلبون، الحريصون على أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك.

فكرة الولع العربي بالمستبد القومي استشراقية بامتياز، يعبر عنها دائما خصوم الأمة، الكارهون لعقيدتها وثقافتها واستقلالها، لذلك لم استغرب حين استشهد من روج لها بكتابات برنارد لويس في «أزمة الاسلام»، وهو صاحب الموقع المشهود في معسكر الخصوم الذين يتحدثون عن الأمة باحتقار وازدراء شديدين، وقد فضح أمره وأعطاه حقه الدكتور ادوارد سعيد في كتابات عدة، وكان كاشفا لحقيقة اولئك الهجائين العرب، ان من كتب مروجا لحكاية «المستبد القومي» وصف المثقفين والسياسيين الذين دافعوا عن كرامة الأمة واستقلالها بأوصاف عدة، بينها انهم معادون للسادات ويؤمنون بالاشتراكية الوطنية والوحدة الاندماجية العربية و... انهم معادون للسامية! هكذا دفعة واحدة.

وإذ لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من الذهول حين يقرأ هذا الكلام، فانه لا يلبث أن يهدأ نفسا ويستشعر راحة واطمئنانا، لانه يجد في الكلام حالة تلبس أخرى توفر جهد التفنيد والادانة، وهو تلبس مقترن باعتراف مكتوب بخط اليد وممهور باسم لا تزوير فيه ولا انتحال.

أما ملاحظاتي على الفكرة فإنني أوجزها فيما يلي:

ـ انها تنطلق من مغالطة جوهرية تتمثل في ان الذين هبوا للدفاع عن العراق ضد الاحتلال كانوا يدافعون عن رئيس ونظامه، وهي تستبعد حقيقة ان أغلب هؤلاء ان لم يكن كلهم اختاروا الموقف الشريف والواعي، حيث كانوا ضد الاحتلال وضد النظام، ولم يشغلهم سوى الدفاع عن الوطن المعرض للاجتياح والاغتصاب.

ـ ان أحدا لا ينكر ان هناك انتهازيين ومنافقين استفادوا من نظام الرئيس صدام حسين، وربما ألبسوا مصالحهم الشخصية أقنعة وطنية وقومية، ولكن القدر المتيقن ان هؤلاء يمثلون استثناء وقشرة زائفة على سطح الحياة الثقافية العربية، ناهيك عن انهم لم يكونوا من بين الذين تطوعوا للدفاع عن العراق، حيث ليسوا من الصنف الذي يمكن ان يموت دفاعا عن قضية أو قيمة، من ثم فتعميم موقف أو صورة هؤلاء على الكافة يعد تغليطا آخر.

ـ اذا كان هناك من انخدع بالشعارات التي رفعها صدام حسين، فالقول بأن ذلك يعبر عن ولع بالمستبد لا يخلو من افتئات وسوء ظن، بل لا يخلو من جهل بالواقع وبالناس، ذلك ان القراءة الصحيحة لهذا الجانب من الصورة تتمثل في شوق الجماهير وتطلعها الى من يحقق احلامها المجهضة، وافتقادها الى النموذج أو الرمز الذي يجسد تلك الأحلام ويسعى الى تحقيقها، الأمر الذي يدفع قطاعات من الجماهير للاستجابة الى من يتحدث عنها أو يرفع شعاراتها ولو على سبيل الادعاء والتدليس، لذلك يبدو مستغربا أن يلجأ البعض الى تبكيت شعوبنا لأنها تبحث عمن يحقق لها أحلامها، ولا يطالبون الحكام وأولي الأمر بأن يكونوا عند حسن ظن شعوبهم، وان يجسدوا تطلعات تلك الشعوب وأشواقها.

ـ الملاحظة الأخيرة في هذه المسألة ان اولئك الذين يهاجمون ما سمي باللوبي الصدامي في العالم العربي، استأسدوا على النظام العراقي ورئيسه بعد رحيله، لم نسمع لهم صوتا في نقد الصداميين الآخرين القابعين في أكثر من عاصمة عربية، من ثم فانهم مارسوا شجاعتهم ليس فقط بأثر رجعي (على النظام الذي رحل) وإنما أيضا جاءت تلك الشجاعة المزعومة في الاتجاه الغلط، حين هاجموا الناس والمجتمعات، وسكتوا على الممارسات الصدامية في العالم العربي.

أما فكرة احتذاء نموذج استئصال النازية في المانيا، والدعوة الى الأخذ به في العراق والعالم العربي، فانني تمنيت على الداعين إليها ان يقرأوا شيئا في الموضوع قبل أن يطلقوا دعوتهم البائسة، فالكتب التي تناولت تلك الحقبة وتطرقت الى عمليات الاستئصال التي اطلق عليها تعبير DeNazification : هذه الكتب عرضت ما جرى على النحو التالي: تم القبض على آلاف العناصر الالمانية التي اتهمت بالتعاطف مع النازي، واودعوا سجون دول الحلفاء التي احتلت المانيا، ففي عام 46 كان هناك 64 ألف الماني في السجون البريطانية، و95 الفا في السجون الاميركية، و19 ألفاً في السجون الفرنسية، و67 ألفا في السجون السوفيتية، كما طرد آلاف آخرون من وظائفهم في عملية تطهير للجهاز الحكومي، ومنع 390 ألف الماني من تولي أية وظائف حكومية في منطقتي الاحتلال الفرنسية والبريطانية، وحدث الشيء ذاته في منطقتي الاحتلال الاميركية والسوفيتية.

وفي منطقة الاحتلال الغربي اجبر كل الماني على ملء استمارة توضح تاريخ حياته، وتم استعمال الاجابات على تلك الاستمارات لمحاكمة آلاف المواطنين، وذلك تحت شعار «استئصال النازية»، وتم حظر الجمعيات ذات التوجهات الايديولوجية وحظر اصدار الصحف، مع تشجيع الجمعيات والنوادي غير السياسية، كما تم اصدار «نشرات صحفية» تعبر عن القيم الديمقراطية الغربية، وعومل الشعب الالماني بازدراء بالغ، كما حظر التنقل بين مناطق الاحتلال، وفرضت على الالمان ضرائب باهظة لتغطية نفقات الاحتلال، وتم ترحيل أعداد غير قليلة من الالمان لخدمة اقتصاد دول الاحتلال (470 ألف الماني نقلوا للعمل في المصانع الفرنسية وحدها)، واعيدت كتابة كتب المدارس بما يتفق مع الرؤية الغربية، واختار مسؤولو الاحتلال القيادات الالمانية التي تشرف على العملية، وتم طرد كل مسؤول ألماني اعترض على تلك المخططات.

هل هذا هو النموذج المراد تطبيقه في العراق والعالم العربي للاندماج في الشرق الأوسط الجديد؟