لو لم تقع العمليات الانتحارية لكان الأمر مستغربا..

TT

كان الامر مستغربا فعلا لو انه لم تقع عمليات انتحارية بعد لقاء محمود عباس وارييل شارون رئيسي الوزراء الفلسطيني والاسرائيلي ليل السبت الماضي، فهي كانت ستقع لو لم يحدث ذلك اللقاء.

فحسب الاسلوب الذي يعتمده المتشددون لا بد من تنفيذ عملية انتحارية كلما كان شارون يستعد للقاء الطرف الاميركي للبحث في تحريك عملية السلام.

المأساة مع هذه العمليات انها تزامنت مع عمليات ارهابية وقعت في الرياض والدار البيضاء. ومنذ وقوع عمليات نيويورك وواشنطن الارهابية، وارييل شارون يسجل نقاطا لصالحه في الادارة الاميركية، بأن الارهاب الذي تعرضت له اميركا تعاني منه اسرائيل، ويلغي بتشنج واقعا مؤلما يعيشه الشعب الفلسطيني، وهو الاحتلال الاسرائيلي العسكري. عندما بدأت الاستعدادات للحرب على العراق دفعت الدول العربية واشنطن الى الالتزام الفعلي بتحريك عملية السلام الفلسطيني الاسرائيلي، اذا رغبت بدعم عربي لاطاحة نظام صدام حسين، فأعدت واشنطن خريطة الطريق للسلام وفيها طرح الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش دولتين مستقلتين، فلسطين واسرائيل.

كان شارون يدرك انه سيتعرض لضغوط من واشنطن كي يقبل خريطة الطريق، ولهذا حرك مؤيدي اسرائيل داخل الادارة الاميركية فنجحوا في جمع تواقيع 80 عضوا من مجلس الشيوخ من اصل 100 على عريضة تطالب الرئيس بوش بعدم الضغط على اسرائيل وتفهم ظروفها، ثم وقعت العمليات الانتحارية، فأعلنت حماس وكتائب الاقصى والجهاد الاسلامي مسؤولياتها عن هذه العمليات التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 21 شخصا، لكن في الواقع «قتلت» هذه العمليات، مبادرة خريطة الطريق الاميركية. ولا تنفع الآن التخمينات بأن واشنطن ما كانت مستعدة لدعمها، او بأن وزير الخارجية الاميركي كولن باول قال يوم الاحد الماضي، في التلفزيون الروسي، ان واشنطن لن تضغط على اسرائيل لتبني خريطة الطريق، لأنه لا يمكن الضغط على دولة ديمقراطية! فهو اضاف: «سنوفر شروطا بحيث يرى الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي ان هذه الخطة تعكس مصالحهما». كل التخمينات لم تعد فعالة، فقد نجحت الفصائل الفلسطينية المتشددة في ايجاد مخرج لواشنطن، حتى اذا ما تخلت كان لديها التبرير، اذ على الرغم من دفاع الرئيس الاميركي عن مبادرته فقد قال لي مصدر اميركي ان هناك مجموعة كبيرة في البيت الابيض صارت تعتبر ان خريطة الطريق فشلت، وأكد ان بوش كان ينوي دفع شارون لقبولها، لكنه سيصغي الآن للقائلين بأن هذه الخطة قد قُضي عليها فعلا، ورأى ان العمليات الانتحارية التي وقعت كانت تحديا مباشرا لسلطة ابو مازن، كما انها كانت تحديا لقدرة شارون على ضبط النفس، واضاف بأنه ستمر عدة اسابيع قبل ان يتم تحديد موعد جديد للقاء بوش ـ شارون، مما يعني المزيد من العمليات الارهابية، خصوصا ان اسرائيل أكدت انها ستواصل سياستها في اغتيال نشطاء حماس!

ويلفت مصدر اميركي آخر الى اتهام اسرائيل ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية بأنه وراء هذه العمليات، ولهذا لن يستقبل المسؤولون فيها اي سياسي غربي يلتقي عرفات في المقاطعة (مقر عرفات في رام الله)، والتفسير الوحيد لهذا الاتهام هو انها ببساطة تريده خارج اللعبة. ولكن يبدو ان اسرائيل استثنت من هذا الاجراء خمسة وزراء خارجية سيصلون اليها وسيلتقون ايضا عرفات، واول الواصلين سيكون وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دو فيلبان.

على كل، لقد «وعد» شارون الرئيس الاميركي بأنه لن يبعد عرفات، وفي اجتماع مجلس الوزراء الاسرائيلي يوم الاحد، قال وزير الدفاع شاوول موفاز، ان ابعاد عرفات الآن سيكون اكبر عقبة في وجه ايقاف الارهاب، «ولو اننا ابعدناه قبل سنتين، لما كان الآن سيلقى الترحيب الدولي». اما شارون فقال ان عرفات يخاف ان يغادر المقاطعة، «لأن اسرائيل ستلقي القبض على 20 هاربا مختبئين لديه».

بعد العمليات الانتحارية قال اسماعيل ابو شنب، احد مؤسسي حماس، ان الحركة تقبل وقف اطلاق النار، «اذا كانت هناك ضمانة دولية بأن اسرائيل ستنسحب لاحقا»، وحسب المصدر الاميركي، فإن الفلسطينيين منقسمون ثلاثة اقسام. الاول: يقبل عودة «جزئية» للاراضي المحتلة عام 1967 مقابل الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود، والثاني: يقبل هذه الشروط للتفاوض انما يريد الاستمرار في القتال ولو عرضت على الطاولة خطة للسلام، والثالث: يرفض بشكل قاطع وجود اسرائيل. وتقع حماس والجهاد الاسلامي في الموقع الثالث، في حين ان موقف كتائب الاقصى المرتبطة بفتح، غير واضح.

بالنسبة الى اسرائيل، ترى انها لا تستطيع ان تتفاوض على السلام النهائي طالما ان هناك فريقا فلسطينيا يرفض وجودها، ثم ان قدرة حماس والجهاد على مواصلة العمليات، وعدم قدرة السلطة الفلسطينية على وقفها، يوسعان مجال المناورة امام شارون لايجاد الاعذار ورفض التوصل الى اتفاق حاسم حول السلام.

اما واشنطن، فيؤكد محدثي، ان ادارة بوش ستقول انها حاولت ايجاد سلام غير ان الفلسطينيين رفضوه، وهذا يعني انها ستقول للدول العربية، التي حثتها على تقديم مبادرة فعلية للسلام، انها تصرفت بحسن نية، وان جورج دبليو بوش لن يكون بيل كلينتون آخر، ولهذا ستتراجع وتترك الاسرائيليين يقدمون على الخطوات التي يحتاجونها!

اما الخاسرون في النهاية، فاضافة الى الشعب الفلسطيني، يرى محدثي، فانهم الدول العربية التي أملت ان تنجح في دفع واشنطن للضغط على اسرائيل لمواصلة مفاوضات السلام، واذا عدنا الى الدائرة المغلقة: عمليات انتحارية فلسطينية، ورد فعل عسكري عشوائي اسرائيلي، فإن هذا سينعكس عدم استقرار كبير في عدة دول عربية مثل مصر والاردن وغيرهما!

ويأسف مصدر اوروبي لتطور الاحداث، فهي غيرت عجلة التوجه الاعلامي لمكتب شارون بالنسبة الى محمود عباس، «اذ بعدما تلقينا معلومات، بأن اجتماعهما كان مجديا ومثمرا وانهما اتفقا على لقاء آخر، وصلتنا بعد العمليات الانتحارية معلومات بأن الاجتماع كان فاشلا، وان السياسيين الاسرائيليين يسمون محمود عباس: ربع ابو مازن، او عشرة بالمائة ابو مازن، على اساس ان كل سلطاته الباقية ما زالت لدى عرفات». ويضيف محدثي الاوروبي: الى ان يثبت ابو مازن انه قادر على احتواء حماس والجهاد وكل الاطراف التي تعارض السلام مع اسرائيل، فإن شرعيته غير قائمة، وبالتالي عليه ان يقرر. انه يبدو معزولا داخل الهيكلية السياسية الفلسطينية، واذا ثبت فعلا ان كتائب الاقصى شاركت في العمليات الاخيرة، فإن المنطق يقول ان عرفات نفسه لا يدعم ابو مازن او محادثات السلام! الاثنان اصطدما سابقا، ويشعر عرفات ان واشنطن وتل ابيب تدعمان ابو مازن لتهميشه. وقد يضطر ابو مازن الآن لاستعمال قوة وزير داخليته محمد دحلان. وينقل المصدر الاوروبي عن لقاء جرى مؤخرا بين دحلان وقادة حماس والجهاد الذين قالوا له ان ذكريات مطاردته لهم ما زالت حية، فأجابهم: «لم تروا شيئا بعد!». ويتوقع محدثي، ان يركز ابو مازن الآن على غزة ويستغل سيطرة محمد دحلان ابن مخيم خان يونس، الذي يخافونه ويحترمونه في آن، ثم ان دحلان المكروه من «المقاطعة» مدعوم من كل الاجهزة الامنية الدولية، وهو (ابو مازن) يرى انه قاتل من اجل ادخال وتثبيت دحلان في وزارته، وعلى الاخير بالتالي ان يقاتل من اجل انجاح ابو مازن في حكومته.

يوم الاثنين الماضي، وكأول رد فعل على العمليات، قال مسؤولون في حكومة ابو مازن انه سيجري تغييرات جذرية في هيكلية الاجهزة الامنية الفلسطينية! الآن اذا اجرى تغييرات أمنية لصالحه، سيكون ملزما باتخاذ قرار حاسم، عندها قد تندلع حرب اهلية فلسطينية متداخلة ما بين عناصر امن دحلان وامن عرفات والمنظمات الاسلامية.

ملاحظة اخيرة، في استفتاء جرى مؤخرا لوحظ تزايد نسبة الفلسطينيين المؤيدين لتسوية سلمية، وان اغلبية صغيرة تؤيد تجريد حماس من اسلحتها.