مغاربة أفغان من دون أن يغادروا المكان

TT

سيفتح حادث اعتداءات يوم الجمعة الماضي في الدار البيضاء (16/5/2003) نقاشا كبيرا في ما بين المغاربة حول مغزاه وأسبابه وأبعاده وتداعياته. ذلك أنه حادث يدخل المغرب في العصر مباشرة، من باب ضيق نعم، ولكنه يلقي به فورا في اختبارات العيش مع الإرهاب.

سبق للآستاذ ع. هـ. بوطالب أن اعتبر أن القرن الحادي والعشرين قد بدأ في 11/9/2001. ويمكن القول قياسا على ذلك، إن المغرب قد دخل هذا القرن يوم 16/5. فقد رفع الستار أمام المغاربة عن واقع يجب أن يتعايشوا معه في ما سيأتي من الأيام والأعوام. إن الإرهاب توأم لمعالم الحياة العصرية.

الأستاذ ع. ك. غلاب، قال في لقاء فكري/سياسي بالتلفزيون المغربي مساء الثلاثاء، حيث كان أول قائد فكري وطني من حجمه يتناول الكلام حول ما حدث، إن الحادث كان مفاجأة، وأضاف، أنها «مفاجأة خطيرة». واعتبر أنه تعبير عن فوضى فكرية.

وهذه حالة يتقاسمها المغاربة مع غيرهم من البشر في ظروف سياسية واقتصادية قوامها الخلط في المفاهيم واختلال القيم، في ظل ما يشرحه منظرو المسلسل الحالي الذي حول الكرة الأرضية إلى سوق، بأنه التخلي عن التقنين وإزاحة الحواجز، لكي تسود فوضى تنظمها فقط التنافسية والربح. في كل مجال دخلت البشرية في مرحلة اللايقين.

في سياق مغربي ضيق، تعبر كلمة «المفاجأة» عن الشعور العام الذي خامر المغاربة وهم يتلقون أخبار الانفجارات المتوالية في الدار البيضاء، ثلاثة، ثم أربعة، ثم انفجار خامس.

كنا في فندق «المنزه» التاريخي بطنجة، في احتفال تكريمي لصحافيي عروس البوغاز. انتهى العشاء وتصدرت الركح فرقة موسيقية تشنف آذاننا بالموشحات الأندلسية العتيقة، ثم جاءت الأخبار السيئة. انتشرنا في الباحة الداخلية للفندق ونحن حيارى نتسقط التفاصيل. في الأمسيات الدافئة تكون مغرية جلسة هادئة في تلك الباحة، التي هي على هيئة «باطيو» أندلسي، لتلقي نسمات تأتي من ملتقى البحرين.. كان هناك سياح يمنون أنفسهم بمثل هذا الذي أقبلنا عليه في ملابس خفيفة. وحينما جاءني نائب مدير الفندق ليبلغني أنني مطلوب لمكالمة هاتفية، قال لي إنه قبل لحظات كان يقول بكل ثقة لشخصيات أجنبية مرموقة حلت بالفندق، إن المغرب آخر بلد سياحي يحتاج التنقل فيه إلي احتياطات أمنية. في الطريق إلى مخدع الهاتف رأيت باب «المنزه» مشرعا يدعو الداخل إلى أن يستمتع بالطمأنينة. تصورت أن تلك اللحظة هي آخر مرة يأتي الراغب في جلسة مريحة في رحاب الفندق ذي السبعين عاما، ولا يطلب منه الشرطي أن يخضع سيارته للفحص قبل أن يبتعد عنها. فمن يدري.

في الشارع كان المارة أقل عددا مما كان في أول المساء. وكان أمرا طبيعيا. سكان طنجة يعرفون كيف يستمتعون بالليل كما بالنهار، في مدينة بهيجة ومنشرحة لا تعرف ولا تطيق الانقباض، مثل ما هو الحال في عين الدياب بالدار البيضاء، المدينة المجنونة بالليل والصاخبة بالنهار. وكذلك هو الحال في مراكش وفاس وأكادير. المغرب الذي يستعد لاستقبال عشرة ملايين سائح في سنة 2010، وله مؤهلات تمكنه من ذلك. لكن السياحة صناعة معرضة للعطب، صناعة لا تزدهر إلا في السلم والاستقرار.

أتت المفاجأة إذن. فالمغرب الذي قرر أن يرتب أوضاعه في كنف الانفتاح والسلم والاستقرار، عليه الآن أن يدخل الإرهاب فاتورة التكاليف التي يتطلبها التكيف مع العصر. ومن ذلك فإن الأمن يجب أن يتحول إلى انشغال جماعي.

لم يكن مدبرو اعتداءات 16/5 بالدار البيضاء في حاجة لسياسة بوش لكي يفعلوا مخططاتهم. والمحللون الذين رموا بسهم في هذا الاتجاه قد يبدو أنهم يعطون مبررا لما حدث. وترداد مثل هذا الاستنتاج يؤدي إلى قبول أن الاعتداءات ربما تكون مبررة. أي لها نصيب من المعقولية. وليس الأمر كذلك. فإن الإرهاب مرفوض من حيث هو ولا يقبل له تبرير. ليس ما حدث هو احتجاج على سياسة الولايات المتحدة. فقبل ذلك بأسابيع كان الاحتجاج على تلك السياسة قد ألب جموعا غفيرة من الشعب المغربي خرجت بمئات الآلاف إلى الشوارع في جل المدن المغربية كبيرها وصغيرها. وعبرت الأحزاب والنقابات والجمعيات المستقلة بكل مشاربها عن رفض شن الحرب على العراق، مشفوعا باستنكار ممالأة السياسة الأميركية للمخططات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني. ذلك كان هو تعبير الشعب المغربي، أما 16/5 فهو عمل اقترفته مجموعة من الأشرار.

كما أنه ليس صحيحا أن المناخ الديموقراطي السائد في المغرب هو الذي أغرى مدبري الاعتداءات بالإقدام على الجرم الذي اقترفوه. وكأن الذين يقولون بمثل هذا يبررون ـ عبر فلتة لسان ولا شك ـ إمكانية التراجع عن التوجه الديموقراطي. وليس القول بمثل هذا واردا ولا جائزا ولا مقبولا. مثل هذا قيل في إسبانيا في أواخر السبعينات حينما تردد بعد إقامة الديموقراطيا «في ظل فرانكو كانت إسبانيا أكثر هدوءأ». لكنه هدوء المقابر. إن استتباب الديموقراطيا هو شرط للحياة المدنية. ولا يمكن قبول أي مبرر للتخلي عن الضوابط التي تنظم تعايش المغاربة فيما بينهم، وترتب ممارسة الشأن العام. إن القول بعكس هذا هو الدعوة إلى العودة إلى حياة الغاب ومصادرة المستقبل.

فلا هذا ولا ذاك بصالح لتفسير ما حدث. إن المغرب قد اختار أن يندمج في العالم من خلال مشروع ديموقراطي حداثي، لأنه قرر ألا يخلف الميعاد مع القرن الحادي والعشرين. وهو مؤهل لذلك، وهذا المسار التحديثي حتمي لا يوجد غيره. والفئة القليلة التي لم تفهم ذلك معزولة عن الأغلبية الساحقة من المغاربة بقدر ما هي بعيدة عن العالم الذي يريد المغاربة أن يندمجوا فيه.

إن واحدا من هذه الفئة كما أخبرتنا الصحف المستقلة، قرر أن يدفن والدته في بيته لأن المقابر العامة هي مرفق لدولة كافرة. منهم من يؤدي الصلاة في المسجد مبتعدا عن الجماعة. إن لهم أفكارهم المنحرفة عن «الصراط المستقيم» ولا علاقة لهم بالمغرب الذي يبني نفسه في دائرة التعددية والانفتاح والحوار. إنهم مغاربة أفغان من دون أن يغادروا المكان. يعيشون بفكرهم المنغلق المتعصب المنعزل عن المؤسسات التي تنظم الحوار، لأنه فكر لا يحاور أحدا، ويمكن القول إن أحدا لا يحاوره. ومنهم من غادر المغرب إلى أفغانستان بالذات التي تمثلت نموذجا للانعزال لممارسة «الهجرة والتكفير».

في حديث لي مع راديو «فرانس انترناشيونال» يوم الاثنين، شعرت أن مخاطبي كان يريد أن يقدم الأمور في بلادنا وكأنها تعيش حالة انقسام بين مغربين، مغرب حداثي ومغرب إسلامي. وهذا تصور بعيد عن الواقع في بلد يعرف ظاهرة مرضية بالأبعاد التي لامسنا بعض ملامحها الخارجية، والتي يصورها بكيفية مقربة جدا التحقيق الذي قدمته «الشرق الأوسط» في عدد الأربعاء (ع. أنوزلا وم. علي)، ولكنها ظاهرة منعزلة ليست من الإسلام في شيء، وبعيدة عن الانشغالات التي تحدو المغاربة المنخرطين في توطيد الديموقراطيا مستهدفين بالذات أن يعيشوا حداثتهم بأصالتهم.

إن بعض الطروح تساير هذه النظرة التقسيمية للمجتمع المغربي المستعارة من حالات أخرى، مشابهة بعيدة ومختلفة، عن حالة المغرب الذي يسوده وفاق وطني واسع يجب أن يزداد اتساعا عبر الحوار وتوطيد المؤسسات وترسيخ التوجه الذي لا رجعة فيه نحو دولة القانون.

هناك جيوب لم يشملها التأطير السياسي، أو ربما تصور البعض أنها تصب في خانته فظن أنه يؤطرها لفائدته. وهذا هو الالتباس الذي يجب أن يرفع. إن الإرهاب الذي مسنا هو إفراز ظاهرة مرضية تفاعلت عوامل داخلية وخارجية لتكوينها بالشكل الذي فاجأنا، ونحن لم نستكمل بعد توسيع نطاق التوافق الوطني إلى الحد الذي يجعل المشروع الديموقراطي غير قابل للتعامل معه كمناسبة للتسابق الانتخابي، أي إلى الحد الذي يجعل الفكر الإرهابي خارج الإجماع وخارج القانون، وغير صالح في أي حال ليكون مادة انتخابية ريعها يذهب جفاء ونشوتها عابرة.