ما دخل العرب بالموضوع...؟!

TT

لفهم سيكولوجية جماهير العوالم المتخلفة، في وجودها المقموع في قبضة طاغية بغيض، عبر تعبيرها الخاضع أو الساخط، أو في رد فعلها الهائج، ابتهاجا بسقوط الطاغية، فتش دائما في سيكولوجية الإنسان المقهور، كما فحصها،عميقاً العالم النفساني مصطفى حجازي..!

إذ يمكن، من خلالها ان نفهم كيف ان المضطهد وقد سنح له القدر التاريخي ان يتخلص من مضطهده وتمثلات طغيانه، يتجه مباشرة للبحث عن ضحية له، أضعف منه عادة، أو تماثل ضعفه، ليحملها مغبة عجزه وخنوعه... وغضبه!

نجد ذلك في أصوات غاضبة تصدر عن عراقيي المنفى على وجه الخصوص. أصوات تعبر عن مشارب شتى، بينهم مثقفون وسياسيون وعوام، مهاجرون إلى الغرب طلبا للحرية أو الخبز، أو الاثنين معا..!

أصوات تعبر عن نفسها بالكتابة في الصحف والمجلات، أو بالصوت، أو الصوت والصورة في الفضائيات، بأساليب مختلفة، لكنها، دائما، تصدر عن المنطق نفسه، منطق تلبيس إبليس...! أي تلبيس «العرب، على نحو عام» جريرة بقاء صدام وطغيانه كل هذه العقود، حتى ليبدو الفاعل/ المذنب كائنا من خارج العراق، ويبدو العراقيون مجرد ضحايا لفاعل خارج واقعهم وثقافتهم وطرائق إنتاجهم للتاريخ...!

فأمريكا، مثلا، حسب نظرية المؤامرة الرائجة، هي من أوصل صدام إلى السلطة، وحماه وقواه، لكنها، عندما خرج عميلها عن النص المرسوم له، قررت ان تحرق ورقته السياسية، وبالاتفاق معه يوم التاسع من أبريل الشهير...!

ويأتي بعد ذلك، العرب، المتهم الأكثر ملطشة في خطاب الإدانة العراقي الشعبوي، في صورة جامعة الأنظمة الرسمية التي تحالفت مع نظام صدام ضد الجلبي والبارزاني والطالباني والحكيم وحتى مشعان الجبوري.

ويضاف إلى ما صار يعرف بـ«الشارع العربي»، الذي تغنى بصدام (حسب تعميم العراقي المعارض) المثقفون والأدباء والشعراء والشاعرات والفنانون والفنانات الذين مجدوه، والرأي العام ووسائل الإعلام التي طبلت له، آناء الليل وأطراف النهار، بدون تحديد كم من العرب مجده، ما تأثيرهم في حركة الشارع، وما وزنهم الفني والأدبي والفكري في الثقافة العربية (هل بينهم: أدونيس، أنسي الحاج، صادق جلال العظم، محمد أركون، عزيز العظمة، نجيب محفوظ، حامد نصر أبو زيد،على حرب، إدوارد سعيد، عبدالرحمن بدوي، برهان غليون، جورج طرابيشي. عبدالله العروي، محمد بنيس، عبد الوهاب المسيري، فاطمة المرنيسي، نوال السعداوي، هشام شرابي، إلياس خوري، عباس بيضون، على زيعور.. وغيرهم مئات ومئات من المفكرين والكتاب والشعراء والمحللين، والفنانين أيضا، الذين يمثلون روح الثقافة العربية وحركتها التنويرية الديموقراطية.

أفهم جيدا (من منظور تجربتي الخاصة) المرارة التي يشعر بها المثقفون العراقيون خاصة (مثل مرارة كلمات فاضل سلطاني في «الشرق الأوسط») ومرارة العراقيين عامة، وهم يرقبون، بسخط وغضب، مداحي الطاغية من مثقفين وسياسيين عرب يرتزقون من دماء العراقيين وآلامهم. لكن يجب ألا توظف هذه المرارة في شحن الأحقاد ضد الآخر (هو العربي هنا، مثقفا ورأيا عاما) وتزيين فكرة التماهي في رؤية «المحرر» الخارجي الذي يريد العراق، في تصوره، عراقا مبتكرا على هواه الاستراتيجي، مفصودا من جسمه العربي يستنسخ النموذج التركي، فيعيد به إنتاج حلف بغداد القديم بتصور جديد، حاضنته «الجامعة الشرق أوسطية»..!

ثم كيفما كان عدد أولئك المثقفين والسياسيين العرب، الذين مدحوا صدام ونظامه، هل كان سقوط صدام ليكون متيسرا لو امتنع فنانون ومثقفون عرب عن زيارة العراق (سنوات الحصار بالذات).

ولنفترض أن الجامعة العربية قررت طرد نظامه من منظومتها، وتبعتها في ذلك الأمم المتحدة، هل كان صدام سيشعر بالعزلة والعار فينادي على المعارضة كي تتسلم العراق منه...!

صحيح ان جامعة الأنظمة العربية قبلت بنظام صدام كممثل للعراق ولم يكن أمامها كجامعة لأنظمة رسمية سوى القبول به.

صحيح ان بعض المتظاهرين العرب (وأشِّدد على بعض) رفعوا صوره نكاية بحكامهم لا محبة فيه بالضرورة ..!

لا شك ان للعراقيين الحق في الشعور بالسخط على أنظمة عربية رسمية وعلى مثقفين وساسة عرب انحازوا لصدام على حساب معاناة الشعب العراقي. لكن لا دخل لكل ذلك بجوهر الموضوع، وهو ان صدام منتوج عراقي صرف، كما ان كل طاغية هو غالبا نتاج مجتمعه، فكما تكونوا يولى عليكم (تقول حكمة العرب الثاقبة..!) ...

ما يهمني، في هذا المقال هو إزاحة فكرة تلبيس الشارع العربي بنخبه السياسية (المعارضة تحديدا) ومثقفيه، وإعلامه (الفضائي تحديدا) دور المذنب المحوري في ما جره صدام ونظامه الاستبدادي على العراق والعراقيين من قمع ومذابح ودمار.

ولأن الشارع العربي شارع غنائي بائس، يلهث وراء التاريخ، مشرد لا عنوان مستقبلي له، بلا هوية مواطنة حقوقية، كتلة صماء، ضاجة، لكنها فارغة، واسعة، لكنها مفرغة، يصبح، بالتالي، ضحية مثالية قابلة لتحميل ما لا يحتمل..!

لا يحتاج الأمر لأي عناء كي يفهم المرء ان صدام حسين طاغية شنيع رضع من ثدي الشر نفسه الذي رضع منه كاليغولا والحجاج وستالين وهتلر، إلى آخر أشباههم المعاصرين...! وانه ملك العراق واستعبد العراقيين، ووظف البلاد والعباد لصالح خياله الشخصي المريض، وصفى خصومه وقتل من افترض انهم أعداؤه المفترضون، بل انه لاحق حتى لاوعي النائمين (كانت توجد شعبة خاصة في مخابرات البعث تترصد ما قد يبوح به العراقيون من أحلام مضادة للنظام يرونها أثناء نومهم..!).

فما دخل العرب بالموضوع..!؟

[email protected]