الممكن مطلوب والمستحيل مرفوض

TT

لا بد لنا من فهم صحيح وإدراك كامل لأهمية الدعوة لاعادة النظر في السياسات العربية الراهنة، إن وجدت وحيثما وجدت، وبعد صبر على أوضاع داخلية غير صحية تضاعفت من خطورتها متغيرات ظروف دولية جديدة اخضعت دول العالم، كبيرة وصغيرة، لإملاءات ورغبات الإدارة الامريكية وفق استراتيجيتها الاقتصادية والعسكرية المرسومة. وفي هذا السياق شاهدنا كيف خضعت دول آسيا وأفريقيا وأوروبا وامتثلت دون أخذ ورد أو مجرد تردد لتعليمات واشنطن. ودعوتنا هذه للفهم، وإن جاءت متأخرة إلا ان الحاجة لها ما زالت ماسة حتى تنسجم مواقف السلطة والشعب في البلدان العربية، مع أهمية قراءة الموقف الاصح لابعاد المرحلة وخطورة اسلوب المزايدات التي لن تدفع عن المواطن والوطن الأذى.

إن خير ما يجب ان تمارسه حكومات معنية هو قدر كاف من ضبط النفس، والتعامل بحكمة مع الاملاءات الموجهة من واشنطن الى دول العالم شعوباً وحكومات. ولتكن استجاباتنا للاملاءات والرغبات للضرورة في حدود أقصى ما يمكن القبول به، إذ ليس بالإمكان أحسن مما كان. فعسى أن تجد الأمة وحكوماتها وقتاً لاعادة ترتيب «البيت» من الداخل، وتتمكن عندئذ من رؤية بصيص ضوء في آخر النفق الذي تقبع فيه لردح من الزمن حماية وصوناً لأكبر قدر من الحقوق وتحقيقا للممكن من طموحاتها المشروعة. فلا الاستسلام المطلق والخضوع التام، ولا الرفض والتمنع ومقاومة طواحين الهواء توفر خيارا أمثل.

لقد تم احتلال العراق الشقيق احتلالا كاملا. ولم تنفع شجاعة صدام حسين وعنترياته في صد الغزو ودحر عساكر «المغول الجدد» خارج أسوار بغداد، ولا نفعت فصاحة طارق عزيز ولا بذاءات الصحاف لانقاذ وحدة شعب العراق وأرضه.. كما غاب دور جامعة الدول العربية تماماً، ومعه غاب ايضا دور مجلس الأمن وأصبح صدام ورهطه في خبر كان.

وتتواصل في الوقت نفسه، وعلى مدى سنين، جرائم حرب الجيش الاسرائيلي داخل الاراضي الفلسطينية ضد الشعب الفلسطيني اغتيالاً وارهاباً وتخريباً بأحدث الاسلحة الامريكية، حتى بعد الاعلان الامريكي عن «خريطة الطريق»، وما أدراك ما هي الفقرات في «الخريطة» التي ستحظى برفض صهيوني وبقبول عربي وفلسطيني.

وتتعرض سوريا لضغوط وحملات ظالمة من واشنطن وتل أبيب معاً، بينما يراوح الموقف العربي مكانه. وقد قام وزير الخارجية الامريكي بزيارة دمشق وبيروت وأطلق تصريحات تفتقر الى اللياقة الدبلوماسية، وتعد خروجا على أشكال التعامل بين الدول، اذ تطاول وزير لدولة على رئيس دولة أخرى. والمؤسف ان ينهج الوزير باول نهج رامسفيلد في تناول مواقف عربية دون غيرها باتباع اسلوب الاستفزاز الجارح، ويعلن الوزير بعد عودته من بلاد الشام بأنه ينتظر من الرئيس السوري بشار الاسد أفعالا لا أقوالا. ويبدو ان رد الفعل السوري قد اتسم بالهدوء وضبط النفس، والمرجو ان يستمر كذلك.

وهكذا يجوز لنا القول ان قدر هذه الأمة قد وضعها وحكامها في زاوية ضيقة حيارى بين هجمة خارجية مبيتة، وضغوط داخلية تغذيها الشكوك والاوهام والخوف من تبعات المرحلة الجديدة ومتطلباتها. وبهذا يتسع نطاق المساحة الفاصلة بين الحكومات والشعوب، ومن هذه الثغرة تهب عواصف عاتية من الخارج وهزات أرضية من الداخل تضاعف من حالات الخوف والشكوك والجمود.

وحالنا لا نحسد عليه، والعلاج بأيدينا لو حسمنا أمرنا. فالسلطة التي تضيق ذرعا وتنهج سياسة ملاحقة ومعاداة لأصحاب الفكر المستنير ودعاة التصحيح والاصلاح، وترفض مبدأ فتح باب المشاركة بالرأي لتطوير المجتمع، هي في واقع الحال تفتح على نفسها بابا أمام صرعة المتطرفين الذين يوكلون لأنفسهم، دون تفويض من الأمة، القيام بأعمال قتل وتخريب ضد الآمنين من الناس في بيوتهم وأماكن أعمالهم، بل وفي المساجد والكنائس، كما حصل في أكثر من بلد عربي وفي باكستان واندونيسيا وامريكا. وهكذا يتزعزع تماسك الجبهة الداخلية فلا تقوى على الصمود أمام تحديات واستفزازات خارجية وعدوان مبيت. وتتوفر للأعداء المتربصين من الخارج عناصر طابور خامس يعمل معهم من الداخل. ويصح القول ان العناصر التي تزج بالإسلام الحنيف في كل أمر من الأمور الدنيوية، وتفتي بما يخالف النص ويخرج عن الاجماع والمألوف، ويتجاهل ما يصدر عن مرجعيات دينية أكثر فهماً واقتداراً وتخصصا، إنما هي الأخرى تتحمل بفعلها المرفوض مسؤولية خلخلة الجبهة الداخلية في أوطانها، وتتسبب في فتح شهية أعداء العروبة والإسلام على مواصلة عدوانهم واستفزازاتهم واستغلالهم للحكومات وللشعوب في آن واحد. وخلاصة القول ان المتربصين بالعرب والمسلمين من عناصر التطرف الصهيوني ـ المسيحي كما لمسناه وشهدناه، سيواصلون استهداف أوطاننا وشعوبنا. وما حصل في العراق الشقيق، وإن كان بسبب رعونة نظام آثم فاسد أوقع نفسه وشعبه في شراك التربص الخارجي، سوف يتكرر في بلدان عربية أخرى.

تُرى والحال هكذا! هل ينتظر حكام وحكماء وحكومات العرب وشعوبها أن تقع الفأس في الرأس ويتم تعيين حاكم أمريكي هنا وآخر هناك؟ أم أن صوت العقل سوف يسود الحكام والحكماء والحكومات وعقلاء الأمة ويدعوهم جميعا ليسرعوا ويضعوا صيغة تعاون وتكامل لانقاذ ما يمكن انقاذه. فلا انفلات وتطرف التقليديين ولا استعجال وهرولة دعاة التجديد والعصرنة، ولا اندفاع ومناورات وتكتيكات دعاة الاصلاح والتصحيح والأسلمة يكفي للتستر على طموحات سياسية تحتل أولويات كل فئة منهم. كما ان اتباع اسلوب الاثارة والعفوية لنشر دعوة غوغائية لمبارزة ومناطحة عدو خارجي يهيمن على دول العالم هو مجرد دعوة للتهلكة. فالأصح والأنسب من هذا وذاك ان يستكمل الحكام والمحكومون بناء الجبهة الداخلية بدءاً بالإقرار بأن «السياسة هي فن الممكن وليس المستحيل». و«ان مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة في الاتجاه الصحيح». فلتكن النفوس هادئة والعقول منفتحة لاجتياز المرحلة الخطرة.

فلا تكرار شطط صدام وارتكاب خطاياه واخطائه ينفع، ولا الانحناء أو المراوغة توفر ردعاً لعدو متربص أو تؤمن سبيلاً للنجاة.. والخيرة فيما اختاره الله سبحانه وتعالى.

* وزير خارجية اليمن سابقاً