متى ينتهي عصر التطرف والإكراه في الدين؟

TT

ان التفجيرات الاجرامية التي حصلت في الرياض والرباط مؤخرا تندرج ضمن سلسلة طويلة من التفجيرات واعمال العنف التي عودتنا عليها الحركات الاصولية المتطرفة على مدار العقود الثلاثة الماضية. وهذه الحركات اصبحت تشكل تحديا بالنسبة للوعي العاقل والمسؤول في العالم العربي والاسلامي بمجمله.

لا ريب في اننا دخلنا في مرحلة الازمة الكبرى للعالم الاسلامي، ولن نخرج منها عما قريب. لن نخرج منها الا بعد الانخراط في عملية المصارحة والمكاشفة مع ذاتنا العميقة، اي مع تراثنا العربي ـ الاسلامي كله. وهي عملية طالما اجلناها بسبب اعطاء الاولوية للمعركة ضد الخارج وضغوطاته. وكنا نتمنى ان تخف هذه الضغوط لكي نتفرغ لمعركة التنمية وبناء فكر سليم. بمعنى آخر فإن الجهاد الاصغر شغلنا عن الجهاد الاكبر: اي الجهاد ضد الذات وانحرافاتها واخطائها.. ويبدو ان علينا اليوم ان نقوم بالعمليتين في آن معا، فلا نعود نتذرع بالخارج الامبريالي وضغوطه لتأجيل مسألة التحرير الداخلي الى ما لا نهاية.

لقد حانت لحظة مواجهة الذات العربية الاسلامية لذاتها بكل أمانة وصدق ودون مداورة او مناورة او مراوغة. ولكننا نعلم ان مواجهة الذات اصعب من مواجهة العدو الخارجي! وربما لهذا السبب أجلناها باستمرار حتى الآن، او صرفنا عنها النظر او تحاشيناها. ولكن، في النهاية، لا بد مما ليس منه بد. والعالم بشرقه وغربه اصبح ينظر الينا شزرا ويتهمنا بالتعصب والهمجية والبربرية بسبب هذه التفجيرات الارهابية التي تحصد العشرات او المئات، هكذا بالصدفة.. فالشرق الاقصى اصبح يكرهنا ايضا وليس فقط الغرب الاوروبي ـ الاميركي. الشرق الاقصى البوذي او الهندوسي او الياباني او الصيني الكونفوشيوسي اصبح يتأفف منا بعد تدمير تماثيل بوذا الرائعة في منطقة باميان بأفغانستان. وهكذا اصبحت صورتنا لدى العالم كله مشوهة واصبحت كلمة «الاسلام» ذاتها محاطة بالدلالات السلبية المخيفة لدى جميع شعوب الارض.. فهل هذا وضع مقبول، وهل يمكن ان نعيش في عالم يكرهنا الى مثل هذا الحد؟ هل يمكن لمثقفي هذه الأمة ان يسكتوا عما يجري، ان يقفوا مكتوفي الايدي؟

في الواقع انهم لا يسكتون. فالعديدون منهم اخذوا يستشعرون الخطر ويحاولون ان يفعلوا شيئا ما لمواجهة الوضع. وينقسم المثقفون المسلمون في هذا الصدد الى قسمين: قسم المفكرين الدينيين، وقسم المفكرين العلمانيين. وقد اطلعت مؤخرا على كلام ادهشني بجرأته للاستاذ جمال البنّا رائد دعوة الاحياء الاسلامي. وهو يدل على حجم المسافة التي قطعها الفكر الاسلامي عندما انتقل من مواقع الانغلاق والتزمت الى مواقع المسؤولية الفكرية والانفتاح على العصر والتسامح. يقول الاستاذ البنا في كراس صغير بعنوان (إيماننا) «ونحن نؤمن ان الاسلام قد قدم الصورة المثلى لله والرسول، على اننا نفهم الصور التي قدمتها الاديان الاخرى، لأن الدين اصلا واحد، ولكن الشرائع متعددة. ونحن نؤمن بالرسل جميعا، وان الله تعالى اراد التعدد والتنوع (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة)، وان الفصل في هذا التعدد هو الى الله تعالى يوم القيامة».

هذا الكلام يعني احداث ثورة لاهوتية داخل الفكر الاسلامي. وهي لا تقل اهمية عن تلك الثورة اللاهوتية التي احدثها مجمع الفاتيكان الثاني الشهير داخل المسيحية الاوروبية (1962 ـ 1965)، فعندئذ اعترف علماء المسيحية ايضا بوجود اديان اخرى في العالم غير الدين المسيحي. لقد اعترفوا بالاسلام، واليهودية، بل وحتى «بغير المؤمنين» واقاموا سكرتاريا خاصة للاتصال بهم ومحاورتهم. ومعلوم انهم ظلوا طيلة ألفي سنة يرددون ان لا خلاص للانسان خارج الكنيسة المسيحية، وان روحه الى النار حتما ان لم يعتنقها حتى ولو كان فاضلا، طيبا، مستقيم الاخلاق والسلوك.. ولكنهم تحت ضغط التنوير والحداثة تراجعوا عن هذا المبدأ اثناء ذلك المجمع الكنسي الكبير، وما كان من السهل عليهم ان يتراجعوا. بالطبع فإنهم ظلوا يقولون بأنه من الافضل المرور بالمسيح والانجيل من اجل النجاة في الدار الآخرة. ولكنهم اعترفوا لأول مرة بأن الانسان المسلم مثلا يمكن ان يتوصل الى ذلك عن طريق دينه وعقيدته. وها هو الاستاذ البنا يعترف بدوره بمشروعية التعددية الدينية والعقائدية.

هذه التطورات الكبرى التي تحصل داخل الفكر الديني لا ينبغي ان نستهين بها نحن العلمانيين المؤمنين، ولكن بطريقة فلسفية. فهي تؤدي الى تحييد كل ذلك الجناح المتطرف الموجود في كل الاديان والذي يبث الاحقاد ومشاعر التعصب بين البشر. ولذلك فأنا ضد رمي جميع الاسلاميين في سلة واحدة، والحكم عليهم ككتلة واحدة صماء بكماء.. هذا موقف خاطئ وغير مسؤول. فالتيار الاسلامي الكبير يشتمل على عدة حساسيات واتجاهات، ولا يمكن الخلط بين الاتجاه العقلاني المنفتح، والاتجاه الماضوي المنغلق والفقير فكريا الى ابعد الحدود. هذا ظلم.

نقول ذلك وبخاصة انه حتى في اوروبا ذاتها التي شهدت التنوير والحداثة منذ اربعة قرون لا يزال فيها تيار مسيحي ديمقراطي مهم. فما بالك بنا نحن اذن؟ وبالتالي فإن من مصلحة الأمة ان يزدهر فيها تيار اسلامي ديمقراطي كتيار جمال البنا او حسن حنفي في مصر، او تيار محمد الطالبي وعبد المجيد الشرفي في تونس، او تيار الرئيس محمد خاتمي في ايران، الخ. ينبغي تحجيم التيار الغوغائي المتطرف الذي يقدم تأويلا خاطئا عن الرسالة الاسلامية والقرآنية. ولا يمكن تحجيمه الا عن طريق التيار الاسلامي الآخر الذي يعرف كيف يقرأ القرآن الكريم وكيف يفهمه ويفسره. يقول الاستاذ البنا ايضا في الصفحة السادسة من هذا الكراس:

«نؤمن بحرية الفكر، وانها اساس كل تقدم، وانه لا يجوز ان يقف في سبيلها شيء. ويكون الرد على ما يخالف ثوابت العقيدة بالكلمة لا بالمصادرة او الارهاب او التكفير.. وليس هناك تعارض بين حرية الفكر المطلقة والدين لأن الدين يقوم على ايمان، ولا ايمان بدون اقتناع وارادة، ولا ارادة او اقتناع الا في بيئة تسمح بالدراسة الحرة والارادة الطوعية والنظر الدقيق. وفي القرآن الكريم قرابة مائة آية تقرر حرية العقيدة بصفة مطلقة وان مردها الى الفرد نفسه (لا إكراه في الدين) (من اهتدى فانما يهتدي لنفسه، ومن ضل فانما يضل عليها) (وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الخ.

ولا توجد الحرية الا بتقرير حرية اصدار الصحف والمطبوعات وتكوين الاحزاب والهيئات والنقابات وبقية مؤسسات المجتمع».

ثم يختتم الاستاذ البنا كلامه بهذه الفقرة الهامة جدا: «ونحن نرفض دعاوى التكفير والردة، ونكلها كلها الى الله تعالى يفصل فيها يوم القيامة. كما قرر القرآن ذلك وطبقته ممارسات الرسول».

ماذا نريد افضل من ذلك؟ ومن يستطيع ان يقول بأن التيار المستنير في الاسلام المعاصر غير موجود؟ ولكن الغرب لا يسمع الا بتيار التفجير والمتفجرات فيستنتج ان الاسلام كله تزمت وتعصب! وهكذا تذهب الامة كلها بجريرة هؤلاء المهلوسين الذين اعمى الجهل قلوبهم واعلنوا الحرب على البشرية كلها.

انه وضع مأساوي لم يعد يطاق. وقد اصبح يكلفنا غاليا على المستوى الداخلي والخارجي. وانا شخصيا لم انتظر (11) سبتمبر ولا التفجيرات الاخيرة لكي ادق ناقوس الخطر وانبه الى خطورة الوضع. فعلى صفحات «الشرق الأوسط» بالذات، ومنذ سنوات عديدة، كنت قد اعتبرت مسألة التنوير الديني بمثابة أم المسائل، وان الاصلاح السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي لا يمكن ان ينجح بدون اصلاح ديني. فالدين هو عمق الاعماق وجوهر الجواهر. واذا ما فسد تأويله او فهمه فسد كل شيء. والدليل على ذلك ما يحصل اليوم. ولكننا نحمل على ظهرنا تركة ثقيلة من الماضي، وليس من السهل ان نصفي حساباتنا معها او ان ننزلها عن ظهرنا. لهذا السبب توقفت طويلا عند تجربة التنوير الاوروبي لمعرفة كيف نجحوا في تلك المعركة الحاسمة للذات مع ذاتها.