سعيد أبو النحس الفلسطيني المتشائل أمام «متاهة الطريق»

TT

إميل حبيبي لم يمت، لأن قضيته ما زالت حية. وما زال هو الفلسطيني «سعيد أبو النحس المتشائل» إزاء الـ «كم» الهائل من مشاريع التسوية التي ظهرت ثم اختفت.

أمام «خريطة الطريق»، فسعيد أبو النحس، كالعادة، متشائم/ متفائل إزاء مشروع التسوية الجديد المطروح في السوق. لكنه أكثر حذرا وتحفظا من دومنيك دو فيلبان. فلم يكد وزير الديبلوماسية الفرنسية يبدي تفاؤله بإمكانية تنفيذ الخطة، حتى سارع شارون إلى رفض استقباله، لمجرد أن دو فيلبان سيزور عرفات المعزول في خرابة «المقاطعة».

سوف يبتلع دو فيلبان الإهانة بكبرياء فرنسية، لأن أوروبا لم تملك الجرأة، بعد، لرد الصفعة بصفعة أقوى على وجه اسرائيل. يكفي التلويح بالمقاطعة الاقتصادية والتجارية. إذا كانت أميركا حامية لاسرائيل وضامنة لأمنها، فأوروبا هي الضامنة لحياة اسرائيل وازدهارها بسماحها للدولة اليهودية بإغراق أسواقها بالسلع والمنتجات.

«خريطة الطريق» هي في الواقع «متاهة الطريق». فهي أَوْهَى مشاريع التسوية التي عرضت منذ خمسين سنة الى الآن. هي واضحة بسيطة في خطوطها العامة، لكنها غامضة محيرة في التفاصيل. طريق عريضة طويلة في أولها إشارة تقول انها تنتهي بدولة فلسطينية. لكن كيف الوصول؟ مشيا، زحفا، هرولة؟

بوش العائد من العراق منتشيا ومتشجعا يعرض على شارون وأبي مازن سيارة أميركية فاخرة للوصول الى نهاية الطريق. بعد طول امتناع وتردد، يعود رئيس أميركي آخر الى التورط مباشرة في القضية الشائكة. والعرب يرحبون بالدور الأميركي المتجدد، فما زالت أميركا الوحيدة المؤهلة للضغط على اسرائيل، على الرغم من انحيازها.

لكن هل يضيع شرطي المرور الجديد في «متاهة» الطريق؟

أعود الى الفلسطيني سعيد أبي النحس. فهو متفائل بـ «جدية» بوش «القبضاي» قاهر صدام وطالبان. لقد رفض أي تعديل لـ «خريطة الطريق». وما زال يتمسك بالمواعيد: دولة فلسطينية مؤقتة في نهاية العام الحالي، ودولة مستقلة دائمة في عام 2005.

لكنّ الفلسطيني أبا النحس المتشائم يشك في ذكاء وقدرة رئيس شجاع وغير معقد على مواصلة الطريق. فأمام بوش مشكلتان تشغلانه: الوضع الاقتصادي المتدهور، والموسم الانتخابي الذي لا بد فيه من كسب رضا يهود أميركا والمتعاطفين مع اسرائيل وشارون.

الطرافة في «خطة الطريق» انها على وهنها وضعفها كمشروع للتسوية، فهي تكاد تشكل محكا للمستقبل السياسي لأكثر من زعيم ومسؤول، من بوش وشارون، الى أبي مازن وعرفات.

النصر العراقي لا يكفي لتمرير بوش مرة ثانية الى البيت الأبيض، ولا سيما إذا تقوض مشروع الديمقراطية الأميركي في المنطقة، وتحول العراق الى دولة كهنوتية كإيران الخميني التي صدرت اللااستقرار الى المنطقة، وما زالت تقاوم التسوية السلمية «من تحت لتحت» في فلسطين.

لقد قبل شارون على مضض بخريطة الطريق، تحت ضغط «الواقع» الأميركي الجديد في المنطقة. لكن قبلها بالجملة وتحفظ عليها في التفاصيل. وما يقلق «سعيد أبو النحس» ان الرئيس تجاوب مع هذه التحفظات. ويخشى الفلسطيني المتشائل أن لا يضغط بوش من أجل تفكيك كل المستوطنات «اللاشرعية»، ليصبح بالإمكان إقامة دولة فلسطينية حقيقية وحيوية.

وسعيد أبو النحس يعرف تماما أن مشكلة اللاجئين هي التي أبقت قضيته مشتعلة وحية على مدى خمسين عاما، بعدما أخفقت الجيوش العربية مجتمعة في إعادته الى بيته القديم، ثم يعرف أيضا ان الاستيطان سيحل محل مشكلة اللاجئين كسبب أساسي للصدام الدموي والحروب بين الفلسطينيين والاسرائيليين في المستقبل، وبعد التسوية.

هل يستطيع شارون أن يكون بيغن آخر، فيتخلى عن الاحتلال ويرضى بتفكيك المستوطنات، دون أن يخسر شعبيته، ودون أن يُتهم بأنه خان اسرائيل «التوراتية»؟ هنا سعيد أبو النحس يتوقع، متشائما، أن يبذل شارون قصارى جهده لتحويل خطة الطريق الى «متاهة» حقيقية يضيع فيها الأميركيون، الى أن ييأسوا وينصرفوا. وقد بدأ شارون ووزراؤه ومستشاروه بتجييش يهود أميركا لـ «تخويف» بوش، وتحريض الكونغرس ضده، والتلويح بحرمانه من «البركة» اليهودية في معركته الرئاسية.

في المقابل، وحتى لو تمكن شارون من أن يختتم حياته السياسية بصنع السلام كـ «بيغن» آخر، فهل يستطيع أبو مازن أن يكون شريكه، دون أن يكون «سادات» آخر؟ الواقع، ان لا أحد يجازف بحياته السياسية كما يفعل محمود عباس. فهو يراهن على خطة واهية للسلام، دون أن يضمن «شراكة» شارونية مخلصة، ودون أن يعرف أن بوش باق في الرئاسة، أو على الاقل، سيمضي في «خطة الطريق» الى نهاية الطريق فعلا.

إذا أخفق أبو مازن في إقناع الجهاديين بعدم الانتحار لمدة سنة، فهل يملك الجرأة على استخدام القوة؟ من الحكمة والتعقل أن لا يهدد أبو مازن باستخدام القوة، لكنه لا يملك صبر سعيد أبي النحس. لقد مات إميل حبيبي وهو صابر ومنتظر. واذا لم يكن الأميركيون جادين هذه المرة في فرض التسوية، فسيذهب أبو مازن قبل أن يذهب عرفات الذي يوظف كل دهائه وتجربته ليس لاحباط «خطة الطريق»، وانما لتعجيز أبي مازن شريك الطريق والعمر.

عرفات، لا شك، رمز لنضالية شعبه في مقاومته وسلمه، لكنه أيضا يمثل تجسيدا لنظام عربي لم يعد مقبولا في أسلوب إدارته وتحكمه ومنطقه وتفكيره.

لقد «فَصَّلَتْ» اسرائيل ديمقراطيتها على مقاس زعمائها التاريخيين، فكان نظامها البرلماني مقنعا لناحوم وايزمان الذي فقد اهميته بعدما نقلت اسرائيل «البارودة» من كتف أوروبا الى كتف أميركا. قبل وايزمان بمنصب الرئاسة الرمزي، فيما عُهد الى الرجل القوي دافيد بن غوريون بالسلطة الفعلية كرئيس للوزراء، واحتفظ النظام بمقاعد برلمانية مريحة لزعماء الإرهاب من بيغن الى شامير.

في تفاؤل سعيد أبي النحس بإمكانية التسوية وقيام الدولة الفلسطينية، فهل يرضى عرفات، إذا ظل حيا وحيويا، بأن يكون رئيسَ دولةٍ رمزياً، فلا يوقع، ولا يقضي ولا يحكم ولا يموِّل ولا يوزع؟

المنصب كاف لإرضاء كبرياء عجوز (74 سنة) له تاريخ وماض. من هنا، فلعل عرفات يقتنع بمنح أبي مازن فرصة النجاح، إذا ضمن الأخير له الرئاسة في الدولة المؤقتة، وربما أيضا في الدولة الدائمة.

إذا رضي عرفات بسلطة أبي مازن أو أي رئيس وزراء في دولة برلمانية غير رئاسية، فهل يرضى الجهاديون بـ «ميني دولة» أو بدولة ديمقراطية يجلسون بسلام في مقاعد برلمانها؟

لا بد، أولا، من الاعتراف بأن الأصوليين الفلسطينيين هم ذراع لروح المقاومة الوطنية في الأمة العربية، قبل أن يكونوا رمزا للمقاومة الدينية. لكن إسقاط السياسة من المشروع الفلسطيني الأصولي هو الذي يعرض تنظيماتهم الى خطر الاستئصال اسرائيليا، ودمغها عالميا وأميركيا، بالعنف والإرهاب.

لقد قضت العمليات الانتحارية على غطرسة الشارع الاسرائيلي، ومسحت بالأرض سمعة الجيش «الذي لا يقهر». لكن في المقابل، فقد دمرت «حماس» و«الجهاد» اليسار الاسرائيلي القادر على لجم شارون والقتلة في جيشه ومخابراته، وَمَكَّنَتَاهم من تدمير الحياة اليومية الفلسطينية والبنى الأساسية للدولة المنشودة.

من هنا أيضا، فالأصوليون الفلسطينيون مطالبون بالقبول بالسياسة كأداة مقاومة: دراسة الداخل الاسرائيلي عن كثب للعب بتوازناته. وقف العمل الانتحاري داخل «اسرائيل» وفي الضفة وغزة، لمدة معينة، لمنح أبي مازن فرصة للمناورة، لعل وعسى.

لقد تعود معلقو السياسة وكتابها التركيز على الأحداث، بحيث يسقطون تماما العودة الى قراءة وفهم الآيديولوجيات التي تتحكم بمواقف وسياسات فرقاء النزاع. مطالبة «حماس» و«الجهاد» بالقبول بالدولة الفلسطينية ووقف الانتحار، تتناقض مع صميم الآيديولوجيا الجهادية الرافضة أصلا لمشروع الدولتين. فهي مصرة على «دولة دينية واحدة» من النهر الى البحر يعيش فيها اليهود كأهل ذمة الى جانب العرب المسلمين.

مشكلة الجهاديين انهم يحتاجون الى «معجزة» لإخفاء اسرائيل من الوجود في زمن لا يعرف المعجزات. وهم في هوسهم الديني يسقطون السياسة من حسابهم، ويسقطون معها صبر سعيد أبي النحس الذي يراهن على التاريخ لحل الإشكالية اليهودية. والتاريخ يقول ان العرب كانوا على مدى 1500 سنة قادرين على تذويب واستيعاب كل الجاليات التي رضيت أن تقيم بينهم في رضا وسلام.