أبغض الصواب في الديموقراطية: حل البرلمان!

TT

لن يحدث أي طارئ، بإذن الله، وستجرى الانتخابات البرلمانية في الأردن في السابع عشر من الشهر المقبل، الذي لم يبق ما يفصلنا عنه سوى ثلاثة أيام، ويأتي هذا الاستئناف للحياة البرلمانية بعد عامين من الانقطاع لأسباب قالت عنها الحكومة إنها طارئة، وكان المقصود الأوضاع المتأججة في فلسطين والأوضاع المتردية في العراق في العامين اللذين اعتبرا فترة حرجة عشية الحرب الأخيرة.

كانت آخر انتخابات برلمانية قد جرت في عام 1997، وهي الانتخابات الثالثة بعد مرحلة التحول نحو الديموقراطية، ولقد قاطعها حزب «الاخوان المسلمين» بذريعة أن هذه الانتخابات ستجرى على أساس «الصوت الواحد»، أي أنه لا يحق لأي ناخب أن يختار أكثر من مرشح واحد في أي دائرة من الدوائر الانتخابية.

كان المفترض أن تجرى الانتخابات اللاحقة في عام 2001، لو أن الحكومة، وهي الحكومة الحالية التي ستشرف على الانتخابات المقبلة، لم تقدّر أن الظروف طارئة وغير ملائمة، وأنه لا بد من التأجيل ثم التأجيل مرة أخرى، إلى أن حسم الملك عبد الله الثاني الأمر واتخذ قراراً قاطعاً بضرورة إجراء هذه الانتخابات، رغم أن الأوضاع الإقليمية تعيش تلك الحالة من القلق وعدم الاستقرار.

ولعل ما يجدر ذكره، أن هناك، على مستوى الأحزاب، وعلى مستوى كبار الشخصيات الوطنية، من كان يرى أن الظروف على الصعيدين الداخلي والخارجي، لا تزال غير ملائمة، وأنه لا بد من التأجيل مجدداً حتى شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، حيث بالإمكان استكمال الاستعدادات الداخلية، وحيث من الممكن أن تستقر الأوضاع الملتهبة في المنطقة، وعلى وجه التحديد في العراق وفي الضفة الغربية وغزة.

لكن هذا الرأي، الذي وصل إلى الملك عبد الله، قابله رأي آخر، وصل إلى الملك أيضاً، يقول بل ان الفترة التي جرى تحديدها لإجراء هذه الانتخابات تعتبر فترة مثالية، فالوضع لم يكن وقد لا يكون أفضل مما هو عليه الآن، والمستجدات التي حملتها الحرب على العراق وحملها التحرك الأميركي «الجاد»!، لحل القضية الفلسطينية سحبت البساط من تحت أقدام الشعارات المزايدة التي تنتعش في مثل هذه المناسبات، وقلصت، وإلى حدود بعيدة، تأثير العوامل الخارجية في الشؤون الداخلية الأردنية.

وأكثر من هذا فإن المؤيدين لإجراء الانتخابات في الموعد المشار إليه أخذوا بعين الاعتبار أنه من غير الجائز أن يكون هناك تأجيل جديد للانتخابات، بينما هناك كل هذا التركيز على ضرورة أن تبدأ منطقة الشرق الأوسط عهداً جديداً عنوانه الديموقراطية والحريات العامة.

المهم أن صاحب القرار النهائي، وهو الملك عبد الله، قد اتخذ قراره بضرورة إجراء هذه الانتخابات دون إبطاء ولا تأخير. ولقد استكملت الحكومة هذا القرار بتحديد أن يكون يوم السابع عشر من يونيو (حزيران) هو يوم انتخاب أعضاء البرلمان الجديد، وهو البرلمان الرابع عشر في تاريخ الدولة الأردنية منذ تأسيسها في مطلع عشرينات القرن الماضي.

وبهذا، وقد أصبحت الانتخابات مؤكدة وفي الموعد الآنف الذكر، فإن ما يجدر ذكره أن الأردنيين لم يبدوا أي أسف على حل البرلمان الماضي، فسلبياته طغت على إيجابياته والصورة المتبقية عنه في أذهان الناس هي تلك المشاجرات العبثية التي تبادل فيها «نواب الشعب»!، الرجم بالأحذية وزجاجات المياه والتي ثُلمت خلالها أذن أحد النواب بأسنان زميله.

لقد انشغل البرلمان السابق بقضايا جانبية جداً، وبتصفية حسابات شخصية ولقد انخرط بعض أعضائه في حملات المزايدات التي رافقت أزمة إبعاد قادة «حماس» عن الأرض الأردنية، وكانت النتيجة أن الحكومة وجدت نفسها ملزمة بالقيام بواجب لم تقم به السلطة التشريعية، فأصدرت عدداً هائلاً من القوانين المؤقتة التي ستبقى مؤقتة بالتأكيد، إذا لم يستفد البرلمان الجديد من التجارب السابقة، فينأى بنفسه عن أخطاء البرلمان الذي أسفرت عنه انتخابات 1997، الذي انتهى إلى الحل وإلى تعطيل الحياة البرلمانية كل هذه الفترة السابقة.

سيواجه البرلمان الجديد، الذي ستعطيه مشاركة «الاخوان المسلمين» لوناً غير لون البرلمان السابق، الذي بدأ باهتاً وانتهى باهتاً، تحديات سياسية حقيقية إلى جانب التحديات التشريعية المترتبة على اصدار الحكومة مئات القوانين المؤقتة، التي من المفترض إما تعديلها أو إقرارها أو رفضها وردها إلى الحكومة الجديدة، التي ستتشكل بعد هذه الانتخابات.

من الآن يجب أن يضع الذين يعتقدون أنهم سيفوزون في الانتخابات المقبلة في اعتبارهم أن البرلمان الجديد هو أول برلمان في الألفية الثالثة وانه بالضرورة يجب أن يكون مميزاً وفي مستوى التحديات التي سيواجهها الأردن والمستجدات التي تعيشها المنطقة.

لم يعد مقبولاً أن يكون نائب البرلمان «قبضاي حارة»، أو مجرد ممثل للعشيرة والحي والجهة، أو أن يكون معظم أدائه منصباً على المشاغبات الجانبية وعلى المناكفات وإشغال زملائه والحكومة بسفاسف الأمور وبقضايا ثانوية، سواء كانت هذه القضايا شخصية أو حزبية.

في الانتخابات المقبلة، سيفوز «الاخوان المسلمون» بالعدد الذي من الممكن أن يجعل اهتمامات البرلمان الجديد، السياسية والتشريعية، تطغى على الاهتمامات الجانبية التي كانت طابع البرلمان السابق. ولهذا فإن مسؤولية هؤلاء ستكون كبيرة جداً، وسيكونون أمام اختبار ما إذا كانوا سيثبتون أنهم استوعبوا تحديات هذه المرحلة الصعبة والمصيرية والحاسمة، أم أنهم ما زالوا يدورون حول القضايا الخلافية التي أشغلتهم وأشغلوا الأردنيين بها في السنوات الماضية.

ان مسؤولية البرلمان الجديد بالدرجة الأولى، يجب أن تكون مسؤولية أردنية، ولعل الذين سيفوزون في الانتخابات المقبلة يعرفون كم أن هذا البلد عانى من الانشغال بالخارج على حساب الداخل، وكم أن المفترض أن يتخاصم الأردنيون ويتقاربوا من أجل بناء بلدهم وتقدمه، ثم بعد ذلك يلتفتون إلى مسؤولياتهم الإقليمية والقومية والعالمية.

ليأخذ الذين سيفوزون في الانتخابات المقبلة العبرة مما جرى في الأردن في عام 1999، وما جرى في سورية الشقيقة قبل أيام.. ففي عام 1999، عندما اضطر الأردن، تحت ضغط جهات متعددة وعوامل كثيرة، إلى إغلاق مكاتب حركة «حماس» كانت تلك العاصفة من المزايدات المعروفة. أما قبل أيام عندما اضطرت سورية تحت الضغط الخارجي إلى إغلاق مكاتب كل التنظيمات الفلسطينية على أراضيها، ومعها كل الحق، لم ينبس أحد بكلمة واحدة، بل ان هذه التنظيمات نفسها لجأت إلى الإعلان عن أنها تقديراً للظروف وحرصاً على «القطر الشقيق» قامت بإغلاق مكاتبها كمبادرة ذاتية.

المطلوب من البرلمان الجديد ومن كل أعضائه وبخاصة الذين سيفوزون من «الاخوان»، مراقبة أداء الحكومة بكل دقة، لكن بعيداً عن المناكفات وتسديد الحسابات الشخصية والحزبية. والمطلوب ايضا ان تكون مصلحة الأردن فوق كل المصالح، فمصلحة الأردن هي الأوْلى بالمراعاة. وإذا كانت الفصائل الفلسطينية المتمركزة في دمشق قد أغلقت مكاتبها هناك حرصاً على مصلحة الشقيقة سورية، كما تقول، فإن حرص أعضاء البرلمان الأردني على الأردن يجب أن يتقدم على أي حرص آخر.

ان المرحلة المقبلة على صعيد الأردن وعلى صعيد الإقليم والمنطقة، ستكون خطرة ودقيقة وصعبة. والمفترض أن يكون البرلمان الجديد قاعدة أساسية من قواعد الدفاع عن الأردن، وبالتالي الدفاع عن الإقليم والمنطقة. والدفاع عن الأردن والمنطقة يقتضي الابتعاد عن المزايدات ورفع الشعارات البراقة التي من المفترض انها استُهلكت تماماً في المرحلة السابقة.

لا يستطيع الأردن أن يقدم شيئاً، لا للإقليم ولا للمنطقة، ما لم يكن قوياً ومستقراً، وقلوب أبنائه على قلب رجل واحد. وهنا لعل أخطر ما يمكن أن يحدث في الأعوام الأربعة المقبلة هو أن يضطر صاحب القرار تحت إرباكات ومناكفات البعض إلى حل البرلمان الجديد فهذا هو أبغض الممارسات الديموقراطية وهذا سيدخل هذا البلد في دوامة خطيرة ويفتح أبوابه على شتى الاحتمالات.