الإرهاب ومهامنا المستعجلة

TT

العمليات الارهابية البشعة التي حصدت العشرات من الارواح في مدينة الدار البيضاء المجيدة مساء يوم الجمعة 16 مايو 2003 ، سابقة فائقة الخطورة لايجوز بحال من الاحوال ان تكون لها لاحقة. وقد عبر الشعب المغربي تلقائيا، في الدارالبيضاء، وفي غيرها، عن رفضه المطلق واستنكاره لها وعزمه على الا يسمح ابدا بأن تفرخ ذرية، كل ذلك في حركة عارمة عز نظيرها وتنبئ ـ إن لم يخنا تفاؤلنا ـ بقومية وطنية شاملة تتصدى، ليس فقط لمهمة تحصين امتنا المدنية، ولكن ايضا للمهمات الملحة الاخرى، مهمات استكمال وتمتين الوحدة الوطنية، وتسريع وتيرة الانتقال الديمقراطي، وانصاف المرأة والفئات الاجتماعية المغبونة الاخرى، وانعاش التنمية وانقاذ البيئة.

واذا كان رد الشعب المغربي على العمليات الارهابية ردا حاسما ونهائيا، فإنه تعبير كذلك عن حكمة عميقة، اذ لم يتسرع المواطنون في نسبها الى اية جهة كانت، ولاحتى في ربطها بأي تيار كان، داخلياً او خارجياً، وهو تصرف منسجم، على كل حال، وموقف الرفض المطلق للارهاب.

وبالفعل فإن الاهم الان من كل شيء آخر، هو سحق فيروس الارهاب. ومن شروط ذلك الا توسع الدائرة المستهدفة اكثر من مداها الحقيقي. فدائرة الارهاب ضيقة بطبيعتها، وكل توسيع غير ضروري لها لا يمكن في نهاية المطاف ان يخدم الا الارهابيين.

مع ذلك يتوجب تعيين العوامل التي ساهمت وان بصفة غير مباشرة في تشجيع الارهابيين على الاقدام على فعلتهم، لان ذلك يدخل في صميم المهمة الملقاة على الجميع، الا وهي مضافرة الجهود لتجفيف كل المنابع الممكنة للسلوك الارهابي.

وألح على ان العوامل التي أنا بصدد ذكرها هي اخطاء في التقدير والتصرف أنزه اصحابها من نية التشجيع على الارهاب، ولهذا سميتها عوامل غير مباشرة. وذكر هذه العوامل لا يعفينا طبعا من الاستمرار في التفكير في المعطيات الاكثر عمقا، التي تخصب تربة مختلف أنواع التطرف كالجهل والفقر والتهميش.

أما العوامل المقصودة فهي أربعة:

1 ـ مغازلة «السلفية الجهادية» من طرف يعتبر الاكثر اعتدالا في طيف الاسلام السياسي، وربما كان كذلك فعلا الا انه ولاعتبارات انتخابية في الارجح كثيرا ما حمى تلك الظاهرة ودافع، او على الاقل تغاضى عن تجاوزات محركيها، كما أنه رعى، أحيانا، على صفحات جرائده آراء لا تختلف في الحقيقة عن آراء السلفية الجهادية، كآراء «امام» افتى بتحليل سفك دماء شهداء اليسار المغربي. لقد دعمت تلك المغازلة المتواصلة «الشرعية» التي منحها «امراء» «السلفية الجهادية» لانفسهم، واعطت لهؤلاء الشعور بلاشك، بان ثقة حام يحميهم، وربما يصلون، في ظله، الى مراتب من النفوذ لم يكونوا ليحلموا بها لولا تساهله معهم. واليوم وقد بانت الحدود التي يمكن ان يبلغها جهل تلامذة السلفية الجهادية، فان على الطرف المعني، وباستعجال، أن يوضح موقفه من هذه الظاهرة، فان كان حقا قد اعتنق الديمقراطية عقيدة واستراتيجية وسلوكا، فما عليه الا ان يتبرأ علنا من السلفية الجهادية، وإن تردد في ان يفعل ، فسيحق للشعب المغربي ان يشك في صدق اعتناقه للديمقراطية.

2 ـ التشكيك في صلابة المؤسسات، والإيحاء المتكرر بأن البلاد مقبلة على تزعزع استقرارها السياسي، من طرف رمزين على الاقل، معروفين، من رموز الماضي القريب، يجب مساءلتهما، واضعف الايمان ان يؤمرا بالسكوت، من الان فصاعدا.

3 ـ تساهل الصحافة «المستقلة» مع الظاهرتين المذكورتين اعلاه، الى درجة التواطؤ، وإن دأبت بعض الصحافة على تذويب سم ذلك التواطؤ في عسل التظاهر بالحرص الاقصى على الديمقراطية وحقوق الانسان، الخ. وبصفة اعم فالغريب ان صحافتنا «المستقلة» كادت لاتهتم خلال السنوات الاخيرة إلا بما هو ناقص، فتضخمه، او سلبي فتجعله مأساويا، ولم تنتبه قط، وبالاحرى نبهت كما هو دورها الى الايجابيات التي تراكمت مع ذلك، سواء من جانب القصر او الحكومة او هذا الحزب او ذاك او المجتمع المدني. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن تلك الصحافة تابعت بالمجهر كل انشقاق وقع داخل حزب من الاحزاب، ولكنها كادت لا تتحدث ابدا عن التجربة التوحيدية لحزب اليسار الاشتراكي الموحد، او التجربة التوحيدية الاوسع لمشروع نواة القطب الديمقراطي. وإذا كان «شبابها» يشفع عنها فيما مضى قبل 16 مايو 2003، فإن مصداقيتها بعد هذا التاريخ ستقاس بمدى استقلاليتها الفعلية ومدى مواكبتها لعملية الانتقال الديمقراطي، بالنقد ولكن المسؤول والبناء.

4 ـ دأب بعض الديمقراطيين و«الحداثيين» على تقطيب المجتمع بين ديمقراطيين «وحدانيين» من جهة، و«ظلاميين» (اسلاميين) من جهة اخرى، والمشكل مع هذا الطرح هو أنه يقابل تدينا بتدين آخر، الشيء الذي لاعلاقة له البتة بالحداثة.

والمشكل معه ايضا، أنه يوسع الدائرة المستهدفة أكثر بكثير مما يلزم ناسفا بذلك وبيده ادعاءاته ذاتها، اذ لايمكن بناء الديمقراطية الا بأكثرية مجتمعية واضحة ان لم تكن ساحقة. والحال ان قسما هاما من المجتمع مهيأ للتفاعل مع الاسلام السياسي.

يبقى الرهان اذن على النجاح في استقطاب اكبر جزء ممكن من الاسلام السياسي لمبادئ واستراتيجية وسلوكات الديمقراطية. وهذا النجاح ممكن ، مادام ان الاسلام السياسي، مثله مثل اليسار وغيره من العائلات السياسية، ليس حجرا متراصا، بل وفيه بعض اتجاهات تبنت الديمقراطية، الذي يمليه العقل (الحداثي) والحرص على المستقبل الآمن للبلاد، هو تشجيع هذه الاتجاهات ودعوة الاتجاهات الاخرى للحوار (عدا السلفية الجهادية التي تجهل معنى الحوار اصلا).

مزيدا من الديمقراطية اذن. مزيدا من الديمقراطيين، لمحاصرة الارهاب ومنابعه، ولازاحة كل حاجز من امام شعب زاحف لا محالة نحو مستقبله الامن، الزاهر، العادل.

* عضو الامانة العامة لحزب اليسار الاشتراكي الموحد ـ منسق مشروع نواة القطب الديمقراطي