رؤوس تحتاج إلى خرائط

TT

اهلا بكم في شرم الشيخ. مرحبا بكم في العقبة. ماذا بعد، الى اين من هناك؟ المفترض انه ليست هناك مشكلة، فثمة خارطة طريق، وثمة هدف محدد والمسار واضح. يمكن ان تكون الأمور بهذه البساطة شرط أن تكون كل الطرق سالكة فعلا، فالأهم من وجود خارطة طريق هو أن تكون الطرق واضحة في الرؤوس. هل حدث ان قدت سيارتك والطريق الى غايتك ليست واضحة في رأسك؟ اذا كانت الاجابة: نعم، فلا بد انك تذكر مدى الارتباك الذي عانيت منه، ولا شك انك تذكر حجم الغضب الذي اثرته عند غيرك من السائقين، ولعلك «تهاوشت» مع بعضهم بالاشارات، أو عبر نبّاح السيارة، وربما حصل تبادل للقصف بصواريخ الصراخ، وربما تحول الطريق فجأة الى ساحة معركة، فشجّت رؤوس وسالت دماء.

الواقع ان هذا يحصل حتى عند اكثر الناس برودة دم وأعصاب، مثل الانكليز، فما بالك عند العرب والاسرائيليين... واميركيين من فصيلة جورج دبليو بوش! وما لم تكن الطرق المرسومة على الخارطة واضحة في الرؤوس، فسوف يشمر كل منهم وينزل الى قارعة الطريق بالعصي والفؤوس، فهي جاهزة دائما، وما أسهل أن «تعود حليمة لعادتها القديمة»!

ثمة ثلاثة رؤوس تحتاج الى خرائط توضح لها الرؤية، أولها بالطبع الرأس الأميركي. حقا، ستكون مضيعة كبرى للوقت ألا تكون الطريق واضحة تماما في رؤوس صنّاع القرار في ادارة جورج دبليو بوش. فمن دون وضوح اميركي لن يكون هناك حسم، وسيمارس شارون لعبة اللف والدوران. رب قائل، ولكن شارون اعترف بوجود احتلال، وبضرورة ايجاد حل. صحيح، لكنه الحل «البلدوزري» الذي سيحاول اكتساح كل شيء، فتكون النتيجة تخريب كل الطرق، ما لم تتصد له الكوابح الاميركية. من هنا أهمية الوضوح في رأس بوش حتى يكون جاهزا لمناطحة شارون حين يتطلب الأمر. وثمة مشكلة هنا. فليس سرا أنه ما بين البيت الابيض والبنتاغون والخارجية الاميركية تتجاذب الرأس الاميركي الأول رؤوس كثيرة. مسكين دبليو. صحيح ان لعبة الشد والجذب ليست جديدة في الملعب السياسي الاميركي، لكن حدتها في هذه الادارة تحديدا غير عادية. ومن الواضح ان الفريق الذي قاتل لكي يظل شارون مستفردا بقرار بوش، قد اضطر الى انسحاب ما، فهل هو انسحاب نهائي أم تكتيكي؟ الاجابة تتوقف على مدى وضوح الرؤية في الرأسين الاسرائيلي والفلسطيني.

بالنسبة للأول، تقول التجربة، وتثبت، انه من الصعب تخيل ان تكون اسرائيل جادة فعلا في ترك عادة المماحكة جانبا. اما بالنسبة للثاني، فان التجربة تقول وتثبت ايضا انه من الصعب تخيل ان يتفق الفلسطينيون على ان يختلفوا، وعلى ان يبقى اختلافهم رحمة لهم ولا يصبح نقمة عليهم. هل هذه مبالغة في التشاؤم؟ ليس بالنسبة الى الطرف الاسرائيلي. وليس لأحد ان يلوم الفلسطينيين اذا اعتبروا ان الطرف الاسرائيلي مراوغ ومخادع الى ان يثبت العكس. والسبب بسيط جدا، فاسرائيل «العمالية»، من بن غوريون وغولدا مئير، الى باراك، لو ارادت حلا حقيقيا وعادلا، لنفسها أولا، فان الطريق كانت واضحة كل الوضوح ولا لزوم لخرائط ولا ما يخرطون. والشيء نفسه ينطبق على اسرائيل «الليكودية» من بيغن الى نتنياهو الى شارون. كان يكفي ان تكتفي اسرائيل بثلثي فلسطين وتترك ثلثها لأهلها، لكي يعيش الطرفان في سلام. لكنهم لم يفعلوا، والخوف انهم لن يفعلوا، لأنهم ما فتئوا يقتلون الزرع والضرع وينسفون الحجر والبشر. فكيف يلوم العالم الفلسطينيين اذا هم ظلوا في ريبة وشك مما يخبئه لهم الاسرائيليون؟

ليس معنى هذا ان الممارسة الفلسطينية بلا أخطاء. كلا، من انتفاضة 1987 الى اتفاق اوسلو الى انتفاضة سبتمبر 2000، كانت هناك أخطاء اسهم في صنعها الذين يسهمون في تشكيل القرار داخل الرأس الفلسطيني. بعض الاخطاء فوّت على الفلسطينيين فرصا، وبعضها أمد الرأس الاسرائيلي بذخيرة اعانته على اطالة أمد القهر والاحتلال. الآن لا مبرر لمزيد من الأخطاء وتفويت الفرص. ليس لأن خارطة بوش غاية المنى، وانما لأن لكل مرحلة ظروفها، ولأنه من دون وضوح رؤية في الرأس سيظل الفلسطينيون يتخبطون على كل الطرق، عاجزين عن التعاون في بلوغ ما يتفقون عليه، غير قادرين على التماس العذر لبعضهم في ما اختلفوا حوله، ولن يجدوا طريقا يوصلهم الى شيء مما يريدون!

[email protected]