هربا من عبث السياسة

TT

من قال ان الفضائيات العربية تجلب الهم؟

أبداً، أشهد انه حتى أسوأ الفضائيات تستطيع، بين الفينة والفينة، توفير واحة وارفة الظل للمشاهد المعذب... تحت وطأة التقارير الإخبارية الجهولة، والمجادلات السياسية بوجهيها «الصراخي» و«التنظيري»، والتحقيقات الباهتة إعداداً او البائسة ترجمةً.

قبل أيام تمتعت حقاً بساعة او أكثر من الهرب بعيداً عن «منجزاتنا» السياسية المتعاظمة أبداً، بعدما لذت ـ مصادفة ـ بمحطة فضائية خصصت لمشاهديها حلقة جميلة من أغاني الماضي. ولا أدري ما إذا كان السبب تقدمي في السن او ان ماضينا أحسن مئة مرة من حاضرنا او كلا الواقعين معاً، أسعدني تذكّر ان في أمتنا أشياء جميلة يحرص ساستنا كل يوم على دفعنا لتناسيها وتذكرهم هم... هم وحدهم.

هم وحدهم ملء السمع والبصر.

اما عباقرة الشعر والنغم والصوت الرخيم فاما ماتوا او هم سائرون على «خريطة طريق» نحو موت بطيء، وتحت غيمة داكنة من جهلنا بقيمتهم، وانصرافنا عن نبوغهم، متشبعين بذوق رديء تتمدد «فيروساته» متخللة حياتنا اليوم بكل أبعادها. ونصيحتي لكم اليوم، يا كل من يريد ان يحافظ على البقية الباقية من إنسانيته، ان يفر من ثقل ما ندعوه افتراء «سياسة»، ويلجأ ولو لبضع ساعات أسبوعية الى موسيقانا وفنانينا العظام المغيّبين بفعل نفر من أنظمتنا ورموزها، وأيضاً معارضيها.... الذين يبدو بعضهم في العديد من الحالات خير مبرّر لبطش الباطشين واستخفافهم بهم.

بربكم أليست موسيقى الشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي أرقى ألف مرة من مفهومنا للديمقراطية؟ أليست تجليات الرحابنة النقيض الحي لترنحنا... فانسحاقنا... فاستسلامنا للترويض والتدجين؟ أليس أصوات أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد ومحمد عبد الوهاب وناظم الغزالي ونصري شمس الدين «شهادة حسن سلوك» حضارية لنا امام خلق الأرض... الذين ما عادوا يعرفون عنا، الا صور العنف العبثي (المسمى هذه الايام «إرهاباً») والتخبط والمزايدة والتكاذب؟

أليست «آه» طرب يطلقها الواحد منا بعد دور لصالح عبد الحي او «راست» لفريد الاطرش او موال لصباح خير من «أف» قرف تخرج تعليقاً على تصريح كاذب - وموقف أكذب - من قيادي عربي يزعم انه لا ينام الليل ساهراً على مصالح الأمة، وترويج «الواقعية» في منظورها ومسلكها؟

المسألة بسيطة. يكفي النظر الى الجدل الدائر في الاعلام العربي المكتوب او المرئي أو المسموع، مع أنني أرجو ان يستمر ـ لأن ثمة خطراً بأنه يعيش أيامه الأخيرة ـ لكي نتبين ما نعيشه هذه الايام.

ففي جبهة واحدة تقف عدة تيارات راضية باتجاه الأمور ومتفائلة بأن منطقتنا مقبلة على مرحلة من الازدهار والسلام، بعد التطورات الحربية والسياسية الاخيرة. منها تيار وصف نفسه دائماً بأنه براغماتيكي «غربي التوجه» يتبنى عن اقتناع وبصدق مواقف تدعو صراحة الى الاستسلام الكامل للقوتين العالمية والاقليمية الأكبر. وقد يختلف المرء مع هذا التيار او يتفق معه، لكن في صميم ممارسة السياسة التعايش مع الرأي المضاد.

ومنها تيار يرى منذ زمن ان العروبة آفة جرّت على المنطقة الويلات، إما لأنها كفكرة مغلوطة من أساسها، او لأنها مجرد خرافة او حلم متعذر التحقيق اغرى برفع ألويته زمراً من الانتهازيين او البلطجية او الجهلة او السذج. وبناء عليه وجب «إعدام» العروبة واستئصال العروبيين. وايضاً لا إشكال مع المقتنعين بهذه الرؤية، إذا كانت جزءاً من اطار نظري او تنظيري متماسك تجاوز اختبار الزمن.

ثم هناك تيار يضم المتفائلين الطيبين بالفطرة، الذين يحسنون الظن بالسياسة والسياسيين ويتعجلون انتصار الخير على الشر... على الطريقة الطوباوية التي يروّج لها اليمين الانجيلي الأصولي الجديد. وهؤلاء مخلصون بأمانة لتفاؤلهم، وإن كانوا يتجاهلون الحقائق المرة التي تقول انه ليس في عالم السياسة خدمات مجانية، وان الصراع يدور بين كتل مصالح لا جمعيات خيرية.

في المقابل، في المواقع المواجهة تماماً، تقف فئات «آيديولوجية» ترفض ان تنسى الماضي وان تجد مجالات للتكيف مع الحاضر والمستقبل. وفئات رومانسية ترفض اي شكل من أشكال التفكير العملي البناء، وتصرّ على الأطر المثالية الاستنهاضية ولو في غياب المكونات الحقيقية للنهضة المرجوة. وعدد كبير من هؤلاء مقتنع بأن المواجهة في نهاية المطاف مسألة «حساب أكلاف»، وان المواطن العربي والانسان المسلم مستعدان لتحمل الكلفة الباهظة للتصدي للمصالح المهيمنة على العالم.

بين هاتين الجبهتين «المتغربة» و«المعادية للغرب» أزعم انه ما زال ثمة مكان لمن لا يريد ان يخدع نفسه او يسمح للآخرين بأن يخدعوه. والطريق السليم هو المباشرة ببحث جاد وعقلاني ومبدئي ـ حتماً ـ عن البدائل، من دون رهانات في غير موضعها تحت مسميات تضليلية خادعة. وبالأمس كنت في حوار مع طبيب عربي، مقيم في بريطانيا منذ مدة، حول هذه المسألة بالذات. وتطرق حوارنا الى نظرة المؤرخ البريطاني الدكتور جون روبرتس (توفي في ابريل /نيسان الماضي) الى انتصار الحضارة الغربية وهيمنتها على العالم. وكيف ان الحضارة الاسلامية هي الوحيدة التي تواجهها فعلياً الآن، والى ان مشكلة هذه الحضارة انها ستخسر في نهاية المطاف حكماً طالما انها تقاوم بينما هي عاجزة عن تقديم البديل.

البديل هو ما يجب ان يكون الغاية بين خيار الاستسلام الكامل او الانتحار الكامل. والمشكلة كما يعبر عنها مناخنا السياسي السائد، تشير مع الأسف الى ان هذا البديل بعيد جداً عن تفكير السواد الاعظم من مجتمعنا السياسي الحالي.

لا شك ان قمتي شرم الشيخ والعقبة اللتين عقدتا قبل أيام جاءتا مفصلين مهمين في تاريخ المنطقة العربي. الا انني أرى من الخطأ التعاطي مع القمتين من منطلق التفاؤل والتشاؤم حيال فرص نجاحهما، بل أفضل من يمكن فعله إزاءهما ـ على الأقل من جانب الاعلام ـ توخي الحذر.

فالرئيس الاميركي جورج بوش رعى القمتين لجملة من الاسباب التكتيكية، أهمها:

1ـ تحقيق انتصار سياسي يعزز به غزوه العراق، ويغطي على «الازعاج» الناجم عن اخفاق إدارته في كشف أسلحة الدمار الشامل التي استخدمت مسوغاً مفتعلاً للغزو، وذلك مع بدء العد التنازلي لانتخابات الرئاسة الاميركية المقبلة.

2 ـ تخفيف الضغط عن بعض حلفاء واشنطن الشرق اوسطيين، وخلق قوة دفع إضافية لسياستها الاقليمية، ولا سيما ان برنامج عمل «صقور» المحافظين الجدد ما زال يشتمل على مشاريع «تأديبية» أخرى للمنطقة.

3 ـ تخفيف الضغط عن اسرائيل التي تواجه بسبب الانتفاضة الفلسطينية أزمة اقتصادية وسياسية.

المسألة إذاً مسألة تكتيكية استنسابية، نوعاً وكماً وتوقيتاً، تأتي لخدمة مجموعة من الغايات الحيوية للاعبين الرئيسيين. ولكن يمثل في ثنايا هذه المسألة من جانب آخر احتمال الحرب الاهلية (الاسرائيلية ـ الاسرائيلية او الفلسطينية ـ الفلسطينية)، والتفسير المطاط للحرب على «الارهاب» وديناميكية الدفع نحو تغيير الانظمة. وعليه إذا كانت الحكمة تقضي بحرمان تل ابيب وواشنطن من دفع الفلسطينيين الى الانتحار، واستفزاز الأصوليين الى مزيد من الانجرار نحو التفجيرات الانتحارية (بشرياً وسياسياً)، فان الاستبشار الحار بمقاربة أميركية سليمة للمنطقة محكومة باعتبارات نزيهة نحو مصالح شعوبها رهان ساذج... وينطوي على مغريات خطيرة العواقب.