يتذمرون

TT

قالت «الايكونومست» مرة تصف حياة الفرنسيين: «غدا يوم آخر، غدا اضراب آخر». وصلت الى باريس امس متأخرا 3 ساعات بسبب اضراب موظفي ابراج المراقبة، وتأخرت عن الحصول على «الشرق الأوسط» ثلاث ساعات هذا الصباح بسبب اضراب القطارات ووقفت انتظر في الشمس سيارة تاكسي طوال ثلاث ساعات لأن السائقين على الارض متضامنون مع سائقي السكك الحديدية المتضامنين مع اهل الملاحة الجوية. وكنت انوي السفر غدا الى بيروت فقيل لي، اجّل المسألة ثلاثة ايام اخرى لأن اثار الاضراب العام لن تمكنك من الحفاظ على اي موعد او وعد او روزنامة.

اعتدت على ان الاضرابات جزء من حياة فرنسا، منذ ان جئت الى باريس وانا في العشرين من العمر. فقد كان الناس في الشوارع يتظاهرون، فريق ضد استقلال الجزائر وفريق معه، والجيش نفسه كان منقسما وفرنسا مهددة بحرب اهلية. ولكن قدّر لها شارل ديغول فهزها من كتفها وايقظها وانقذها. وبعد المرحلة الاولى الى باريس استهواني السفر الى المدينة واحببت الاقامة فيها وعندما وصلتها مرة في العاشر من ايار (مايو) 1968 رأيتها تحترق بأيدي الطلاب الفرنسيين مع ان المحتلين الالمان كانوا قد اشفقوا على جمالها ومبانيها خلال الحرب، ورفضوا ان يصدروا امرا بإحراق هندستها ومنمنماتها وجاداتها وحدائقها.

اخترع الفرنسيون المقاهي من اجل ان يتجادلوا فيها بصوت عال بدل من ان يتصادموا في الشوارع. انهم شعب يحب الاعتراض ويهوى التأفف. والباريسيون يقحمون «افا» او «تبا» بين كل «أف» او «تب». ويتذمرون من كل شيء. ولا يرون ان شيئا يستحق الاعجاب او الاطراء. ولكن من هذا الجدل ومن هذا الشغف بالحياة والفكر والثقافة والحرية قامت اربعة قرون من الارث الادبي والشعري والروائي والفلسفي والانساني. ومن بين الاضرابات والكسل والخمول قامت ايضا احدى اهم الثورات الصناعية في العالم. ويتذمرون. وتمتلك فرنسا، من بين دول اوروبا الغربية، ارضا تشرق عليها الفصول الاربعة في وقت واحد. وعلى بعد ساعة واحدة في الطائرة تستطيع ان تخرج من شتاء باريس الى صيف نيس، او الى الاطلسي. ويتذمرون. وتفيض فرنسا بكل انواع الزراعات والثمار فيما لا تعرف بريطانيا سوى التفاح الاخضر والهليون والبقر المجنون. ويتذمرون. ويروى انه في ذروة الخوف من «جنون البقر» في بريطانيا وصل الى لندن زائر من لبنان وذهب الى احد المطاعم اللبنانية. وعندما اتجه صاحب المطعم نحوه للسلام عليه، سأله على الطريقة اللبنانية: «كيف اللحمة عندكم؟». فأجاب هذا، على الطريقة اللبنانية ايضا: «بتجنن».

قضت مارغريت ثاتشر على نغمة الاضرابات في بريطانيا وفككت نقابات الخمول ونقلت الاقتصاد البريطاني من مرحلة التكايات والبطء والتخلف والفحم الحجري، الى مرحلة التنافس والرخاء. وعندما احتفلت الملكة اليزابيث بمرور نصف قرن على تتويجها الاسبوع الماضي، تذكرت دون شك ان امرأة اخرى كانت اهم شريكة لها في هذه الولاية الطويلة. وما زلت اذكر اننا عندما انتقلنا الى العيش في بريطانيا العام 1978، كان معدل راتب العامل 28 جنيها في الاسبوع. وكانت شوارع لندن مليئة بالقمامة والمضربين، كما هي شوارع بعض المدن الفرنسية اليوم. ووصلت امرأة الفولاذ فهزت بريطانيا من كتفيها وايقظتها. وعندما عاد العمال الى الحكم مع طوني بلير لم يستطيعوا العودة الى الوراء ونقابات الخمول والكسل والاتكال. ولما اضرب رجال الاطفاء العام الماضي نزل الجيش يقوم بأعمالهم. وعرفت بريطانيا مع العمالي بلير ازدهارا اقتصاديا «رأسماليا» لم تعرفه من قبل. غير انه اليوم في مأزق سياسي قد يختم حياته السياسية. فهو متهم بأنه لم يقل الحقيقة في موضوع اسلحة الدمار الشامل في العراق. وعندما يخفي زعيم غربي الحقيقة او يتلاعب بها، فهذا لا يعني انه «كذب» على الناس بل انه «خدع» الامة، اي خانها. وهذا مقتل نهائي في السياسة، في حين ان صدام حسين قال للعراقيين انه خارج لملاقاة الاميركيين من دون ان يحفر خندقا لاعاقة تقدمهم، وقد سألني صديق هامسا قبل ايام ان كنت اعرف من الذي يقود المقاومة في العراق ضد الاميركيين، فأجبت بالنفي. فتطلع يمنى ويسرى ثم مال على اذني وهمس فيها السر الكبير: صدام!