المتجاورون العرب.. من النفور إلى التآزر

TT

مع ان الرسول العربي، صلوات الله عليه، أوصى بسابع جار، وهي واحدة من وصاياه التي تنظِّم في مجموعها السلوك القويم للإنسان مع خالقه ومع نفسه ومع جيرانه ومع عائلته ومع أمته.. التي هي خير أمة اُخرجت للناس، فإن ظاهرة النفور في مسألة التجاور العربي كانت ملحوظة وإلى درجة ان النفور انتهى الى حالات راوحت بين التآمر والاحتراب الحدودي ومحاولات كثيرة لزعزعة الاستقرار في الداخل، فضلاً عن ان المتجاورين تحولوا في المحافل الدولية وفي المؤتمرات الاقليمية، الى اعداء يطارد الجار جاره وينصب له المكامن، في حال شعر أن هنالك بعض المكاسب المعنوية او المادية لهذا الجار يمكنه الحصول عليها.

ونكاد من الصعب نستثني جارين عربيين من هذا النفور الذي نشير اليه، وإن كان النفور العراقي ـ السوري والمصري ـ الليبي والمصري ـ السوداني والمغربي ـ الجزائري والسعودي ـ القطري وصل في بعض المراحل الى حد المواجهة والقطيعة.. إلاَّ انه يبقى دون ما وصل اليه النفور العراقي الصدَّامي والكويتي الصبَّاحي حيث ان ذاك النفور انتهى الى ان العراق الكبير والقوي، استضعف الجار الصغير فأرسل اليه قوات تحتله ثم اعلن وحدة بالقوة معه اثارت الاستهجان إذ كيف يمكن ما دام العراق اعتبر الكويت «فرعا» من «الأصل» ان تتم وحدة بين «البلد الواحد» وكيف ستصمد مثل هذه الوحدة اذا كانت الوحدة المصرية ـ السورية التي قامت على اساس الرضى الشعبي المباغت والإلحاح السوري العسكري والمدني معاً، لم تصمد وحدث الانفصال على نحو ما يحدث في العمليات الجراحية المعقدة، عندما تفشل عملية زرع سببها رفض الجسم للعضو المزروع؟.

بعد الذي اصاب العراق من جراء استضعافه للجار الكويتي، فأدخله هذا قفص الأسد من خلال حرب بوش الأب عليه، بدأ يحدث نوع من اعادة النظر في ظاهرة البغضاء بين المتجاورين، ولكنها كانت اعادة نظر بطيئة ربما لأن الشعور بالخطر الناشئ عن تداعيات تلك الحرب لم يكن بالقوة التي بات عليها بعد العملية الترويعية يوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001 في كل من نيويورك وواشنطن والتحول المباغت في السلوك الاميركي وكيف ان الادارة الاميركية التي يستأثر المتعاطفون مع اسرائيل بالنصيب الأكبر من مفاصلها الرئيسية قررت اعتماد الاسلوب الوقائي. ومن هنا جاء الخيار الحربي على افغانستان ثم الخيار الحربي على العراق. ومن هنا ايضاً جاء الأمر الواقع على الفلسطينيين من خلال القمة العربية التي استضافها الرئيس بوش الإبن في شرم الشيخ ثم من خلال القمة اللاحقة التي استضافها في «العقبة» ليعلن فيها ما ليس في الحسبان الفلسطيني وهو أن «اسرائيل دولة يهودية» بمعنى ألاَّ يكون فيها لا عرب 1948 ولا عرب الشتات ويعلن فيها اول رئيس للحكومة عن الفلسطينيين محمود عباس ان الانتفاضة ستكون بما معناه صفحة يجب طيها بالحسنى.. او بالإجراءات الدحلانية.

هذا الوضع الدولي المستجد الذي لا يتسع الصدر الاميركي لأي مناقشة في شأنه جعل ظاهرة النفور بين المتجاورين العرب تبدأ الانحسار ليحل محلها شعور بضرورة ان يساند الجار جاره وأن يشد غير المستقوى عليه من إزر الجار الذي قد يحدث في اي لحظة ولأسباب طارئة او مفتعلة استقواء عليه. ولنا في هذا الذي يحدث بين مصر والسودان وبين مصر وليبيا المثال على ما يحدث في هذا الشأن من دون ان يعني ذلك ان الأمر مقتصر على الدول التي اوردنا اسماءها. فقد فاجأ الرئيس حسني مبارك الذي يتبادل مع الرئيس معمر القذافي الزيارات المباغتة، الجار السوداني الذي طالما عاش الجار المصري بضع سنوات من الحذر والانزعاج منه، بزيارة دامت بضع ساعات. وسبقت الزيارة المباغتة تصريحات تؤكد صدق المثل الشعبي السائر «الجار للجار.. ولو جار» متمثلة بتصريح لوزير الخارجية الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل جاء فيه قوله في احدى مراحل السعي لترميم ما افسده النفور «ان علاقة السودان مع مصر هي علاقة حياة او موت ولن يسمح السودان لأحد بعودة هذه العلاقات الى الوراء...».

بعد الزيارة المباغتة التي قام بها الرئيس مبارك الى الخرطوم يوم الاربعاء 31 ابريل (نيسان) الماضي وكانت الاولى له منذ 14 سنة، جرى في القاهرة اللقاء المباغت الذي ضم «ديناصورات» المعارضة السودانية وهم السيد الصادق المهدي والسيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق. لكن لقاء الثلاثة في الدار الميرغنية في القاهرة لم يكن هذه المرة من اجل ان تضغط مصر على «الحكم الإنقاذي» على نحو ما كان يحدث في زمن استشراء ظاهرة النفور، وإنما من اجل ان يتحقق بعودة الميرغني المتأخر كثيراً في العودة الى الخرطوم ثم بتوافُق المهدي وقرنق مع الرئيس البشير ما يجوز اعتباره المصالحة الوطنية الثانية التي يمكن بناء السلام عليها.. وهو امر تحبذه الادارة الاميركية، وتحبذ بقاء الرئيس البشير في موقعه إن هو اعتمد في السودان ما اعتمده الرئيس مبارك في مصر على صعيد الهامش الديمقراطي وتثبيت الانفتاح وايضاً على صعيد التفهم للوضع الاقليمي على نحو ما هو مرسوم على خارطة الطريق الاساسية للمنطقة والتي تشكل «خارطة الطريق» التي جرى تثبيتها في قمة العقبة كأمر واقع لا مجال لغيره جزءاً بسيطاً من الخارطة الكبرى.

والسؤال الآن هو: هل ان «حكم الإنقاذ» الذي يحتفل بذكرى سنة جديدة يخطط حثيثاً، وفي ظل ظاهرة مؤازرة المتجاورين لبعضهم البعض، نحو الأمركة فينجو الحكم وينقذ نفسه وينعم بالنفط، ام يرى ان الاستدارة الصاعقة تشكل حيثية لتغييره وبذلك ينقض «الديناصورات» عليه ويبدأ السودان عهداً جديداً؟

ولن يطول الوقت لكي نتلمس ملامح الإجابة الواضحة لأن الظروف قد تتحمل بعض التكتيكات... لكنها لا تتحمل المناورة.