الوهم الخطير بـ«فيتنام أخرى»

TT

في يوم حار ورطب من سبتمبر 1984 استقبلني راؤول سيدراس دكتاتور هايتي العسكري في الفيلا الخاصة به والآيلة للسقوط في بورت ـ آو ـ برنس لإجراء مقابلة معه لصحيفة «الشرق الأوسط».

وقد تحدى سيدراس ومجموعته الانقلابية، باستيلائهم على السلطة عبر انقلاب عسكري، مطالب الولايات المتحدة بإعادة الرئيس المنتخب جان بيرتراند أرستيد إلى السلطة.

وقال سيدراس إن الأميركيين لا يستطيعون فعل شيء لأن «هايتي ليست غرينادا».

غرينادا جزيرة صغيرة من الجزر الكاريبية غزتها الولايات المتحدة قبل 10 سنوات في ما يمكن أن نسميه الآن بتمرين مبكر لـ«تغيير نظام».

بعد المقابلة مع سيدراس أخذنا مرشدنا السياحي، وهو شاب يدعى توسينت، في جولة إلى المدينة،حيث التقينا عددا من المراهقين المنفعلين يحملون بنادق قديمة ويتوعدون بالقتال «حتى آخر قطرة دم». وقد أقنعنا مظهرهم إن أحداً منهم لن يقاتل (الذين يودون أن يقاتلوا لا يتباهون!).

لا حاجة للقول انه وبعد عدة أسابيع من مقابلتنا، بعثت الولايات المتحدة قوة عسكرية أجبرت الدكتاتور ومجموعته الانقلابية على الفرار نحو جحور يختبئون فيها.

بعد اكثر من 10 سنوات على ذلك، جاء الدور على رادكو ملاديتش الجنرال ـ الجزار الصربي في البوسنة، ليردد نفس كلمات سيدراس ضد الولايات المتحدة.

قال ملاديتش لأحد الصحافيين «البوسنة ليست هايتي، سيحفر الأميركيون قبورهم بأيديهم إذا تدخلوا. سنقاتل حتى آخر قطرة من دمائنا».

في هذه المرة أيضاً عرض التلفاز البريطاني المراهقين الصرب وهم يحملون بنادقهم مضخمين خطاب ملاديتش عن التحدي. ولكن، مرة أخرى، تدخل الأميركيون بينما هرب ملاديتش وظل مختفياً منذ ذلك الحين.

وبعد سنوات قليلة من ذلك، جاء دور سلوبودان ميلوسيفيتش، القائد الصربي الشيوعي ـ الفاشستي، كي يغني أغاني شبيهة بتلك التي رددها سيدراس وملاديتش.

ذهب ميلوسيفيتش إلى تلفاز بلغراد ليعد بأنه إذا هوجم فإن صربيا ستقاتل «إلى آخر قطرة من دمائها». وحذر قائلاً «صربيا ليست البوسنة».

ومرة ثالثة تدخل الأميركيون مع حلفاء واستولوا على كوسوفو دون خسائر تقريباً. وبعد ذلك بوقت وجيز سقط ميلوسيفيتش في بلغراد، وبعدها بشهور وضع في السجن بلاهاي متهماً بجرائم حرب.

ولأن قليلين هم الذين يتعلمون من التاريخ، فإن الدور التالي كان على طالبان في أفغانستان كي تتواصل حكاية الحماقة هذه. وفي سبتمبر 2001 خرج الملا عمر قائد طالبان عن صمته، وقال في مقابلة إذاعية، إن هجوم الولايات المتحدة على أفغانستان سيكون علامة لـ«دمار أميركا». و«إن أفغانستان ليست صربيا. سنقاتل حتى آخر قطرة من دمائنا».

هل للمرء أن يستعيد ما حدث؟.

حسناً، مرة أخرى هجم الأميركيون وانتهى الملا عمر إلى الفرار بعيداً وعلى نحو سريع ربما سجل به رقماً قياسياً في العدو. وذاب نظامه وتلاشى، أما أصدقاؤه من شبكة القاعدة، بدءا من أسامة بن لادن فإنهم فروا بسرعة اكبر.

بعد ذلك جاء دور صدام حسين جزار بغداد كي يطلق ضوضاء بطولية.

أبلغ صدام مجلس قيادته الثورية في يناير عام 2003 قائلاً : «العراق ليس أفغانستان. سنقاتل حتى آخر قطرة من دمائنا».

وقد أظهرت قناة تلفزيونية يملكها عدي ابن صدام «فدائيي صدام» وبعضهم بكروش منتفخة من شربهم البيرة وهم يحملون الكلاشنيكوف ويعدون بـ«تحطيم الأميركيين».

ومن جديد هاجم الأميركيون ولم يتقدم أي شخص ليقاتل فعلا.

وكان صدام وعدي وغيرهما من أعضاء عصابة البعث العراقي أول من هرب واختبأ.

في كل حالة، من سيدراس وحتى صدام، فإن زعماء لا شعبية لهم اعتبروا رغباتهم في مصاف الحقائق.

حسناً، بالطبع هايتي لم تكن غرينادا، والبوسنة لم تكن هايتي، وصربيا لم تكن البوسنة، وأفغانستان لم تكن صربيا، والعراق لم يكن أفغانستان. إن مثل هذه التأكيدات التبسيطية لا تستطيع أن تقدم أي أساس لتحليل جاد للوضع، دعك عن تقديم استراتيجية وطنية ذات مصداقية للدول المعنية .

لقد وعد كل الدكتاتوريين من سيدراس إلى صدام مروراً بملاديتش وميلوسيفيتش والملا عمر بخلق «فيتنام أخرى» للأميركيين. كان يراد لهايتي أن تكون «فيتنام الكاريبية». وللبوسنة وصربيا ان تكونا «فيتنامات البلقان». ولأفغانستان أن تكون «فيتنام وسط آسيا». وللعراق أن يكون «فيتنام العرب». ولكن لم تصبح اي من هذه فيتناما أخرى.

كان من المفترض أن يمثل مقاتلو فودو بهايتي أمام أشباح أسلافهم ويعدو جيشاً بالملايين ليحاربوا إلى الأبد. وكان يفترض في تشيتنيك الصرب أن يقاتلوا «حتى نهاية الوقت». كما تعد أغانيهم الحزبية. وكان يفترض بـ«أبطال البشتون»، التابعين للملا عمر، ومعهم مجاهدو بن لادن، أن يقاتلوا لعشرات السنين إذا لم يكن لقرون (زعم بن لادن أنه حطم الإمبراطورية السوفيتية بمفرده تقريباً، وقد تأهب ليفعل الشيء نفسه بالإمبراطورية الأميركية).

لقد تم تقديم حرس صدام الرئاسي الذين يستخدمون أسماء بارعة كاسم نبوخذ نصر بوصفهم «أعظم المقاتلين المتمرسين في العالم»، وعندما أتى موعد اللقاء اختفوا عن الأنظار.

كل هذا تاريخ قريب، ومع ذلك فإنه يبدو أن هناك من لم يستوعب الدرس. إن بعض الملالي الذين يحكمون في طهران ما زالوا يرددون نفس الترهات التي أتى بها سيدراس وملاديتش وميلوسيفيتش وعمر وصدام.

قال حسن روحاني أحد صغار الملالي، ويعمل أميناً عاماً للمجلس الأعلى للدفاع الوطني في طهران، «إيران ليست العراق. إن أبطالنا سيقاتلون إلى آخر قطرة من دمائهم. وسيواجه الأميركيون فيتنام أخرى».

ويتواصل الأمر هكذا.

لقد صدرت تصريحات مشابهة من الخمينيين الآخرين، غير القادرين على رؤية ما حدث إلى الشرق منهم في أفغانستان وإلى الغرب في العراق. إنهم يواصلون ترديد الشعارات الخمينية الطفولية «الأميركيون لا يستطيعون أن يقوموا بعمل لعين كهذا». و«إيران ليست العراق».

بالتأكيد إيران ليست العراق، في نفس الوقت الذي لم يكن فيه العراق هو أفغانستان وهكذا.

لكن الحقيقة هي ان إيران في ظل نظامها الحالي، ليست في وضع يجعلها تدافع عن نفسها أمام هجوم كبير من الولايات المتحدة، وهذا شيء لا يجب الشعور بالخجل منه. إنه حقيقة. فإيران ليست لها القوة الاقتصادية والقاعدة الصناعية والقدرات التكنولوجية والقاعدة السكانية والأسلحة المتقدمة لمحاربة الولايات المتحدة. ومن المؤكد أيضا، إن أغلبية الإيرانيين إذا عرفوا الحقائق لن يتقدموا ليموتوا على نحو غير ضروري للدفاع عن نظام لا يحبه العديد منهم إن لم يكن بالفعل معظمهم.

أما بالنسبة للوبي الذي يدعو في واشنطن إلى أن توجه الضربة القادمة إلى إيران فإن الحكمة تقتضي من القادة في طهران أن يتوقفوا عن خداع أنفسهم بالشعارات القديمة. يجب أن يبحثوا عن سياسة واقعية تطرح المشاكل المعلقة بين نظامهم وواشنطن. هذا لا يعني التسليم لمشيئة الولايات المتحدة، وإنما يعني التخلي عن المغامرات التي يمكن أن تكون قاتلة لإيران.

إن قيادة حكيمة للبلاد لا يجب أن تستثير الأوضاع فقط لكي ترى ما إذا كانت إيران ستصير أو لا تصير «فيتنام أخرى».

وكلمة أخيرة : لنفترض أن كل الأماكن التي ذكرناها صارت «فيتنامات أخرى» فماذا يعني ذلك؟ إن فيتنام ما زالت بلداً متخلفاً تقمعه دكتاتورية شيوعية ويعيش أغلبية شعبها على دخل يصل الى دولارين في اليوم. لقد أجبرت الولايات المتحدة على مغادرة فيتنام تحت ضغط الرأي العام فيها. وعند النظر مرة أخرى للأمر فإن ذلك لم يكن فقداً للولايات المتحدة، ولكن هل كان كسباً لشعب فيتنام؟.