نعم.. العراقيون غير مؤهلين للديمقراطية!

TT

قد لا يعجبنا هذا، لكنه حتى الان حقيقة راسخة اكبر واقوى مما نتمنى. فالعراقيون غير قادرين في الوقت الحاضر على حكم انفسهم بأنفسهم، بالضبط كما يقول حكام العراق الحاليون الاميركيون والبريطانيون. واذا اردنا الدقة فان العراقيين القادرين على ادارة العراق بطريقة مختلفة عن ادارة صدام حسين له ليس في مستطاعهم الوصول الى سدة الحكم او حتى الاقتراب منها، لأسباب لا تتعلق بهم وانما بالزعامات السياسية العراقية وبسلطات الاحتلال الاميركي ـ البريطاني.

نظام الحكم الذي يحتاجه العراقيون، بعد 35 عاما من دكتاتورية متوحشة وقرون من دكتاتوريات اقل وطأة، هو النظام الديمقراطي. والقادرون على اقامة نظام من هذا النوع وتثبيته والمحافظة عليه هم الديمقراطيون. والجماعات السياسية الناشطة في العراق الان ـ القديمة والجديدة ـ ليست ديمقراطية، والادلة على هذا لا تعد ولا تحصى.

دعكم من الشعارات التي تزدحم بها برامج هذه الاحزاب والحركات والمجموعات وصحافتها وبقية وسائل دعايتها، فهذه كلها ـ كما يعرف كتّابها ومذيعوها قبل غيرهم ـ اكاذيب نسميها تهذبا كلاما للاستهلاك المحلي. ودعكم من اشياء كثيرة اخرى، نظرية وتطبيقية، وتأملوا فقط اوضاع زعامات هذه الجماعات.. فهذا زعيم بالوراثة، وذاك زعيم من المهد الى اللحد.. هو انشأ حزبه منذ عقود وسيظل زعيما حتى الممات، وذلك زعيم عائلي تتولى زوجته الى جانبه المسؤوليات التي لا وقت لديه للاضطلاع بها وهما يعدّان معا ابنهما للزعامة. والرابع هو الزعيم ومسؤول العلاقات الخارجية والداخلية في حزبه والمسؤول الاول والاخير بالطبع عن الشؤون المالية. والخامس جمع من حوله نصف دزينة من الاشخاص المغمورين ينفق عليهم من مال حرام. والسادس والسابع.. والعشرون.. والخمسون يجمع بين «مؤهلات» هذا و«قابليات» ذلك، مزيدا عليها قدرات «فذّة» في النصب والاحتيال وتبويس اللحى والايدي.

نعم، هذه هي الصورة الحقيقية، المؤسفة للغاية، للزعامات السياسية الحالية في العراق، كما عرفتها في السابق وكما تعرّفت اليها اكثر اخيرا وهي تعمل في الميدان: العراق. هناك بالطبع استثناءات، لكنها محدودة وغير مؤثرة حتى الآن او لا يراد لها ان تكون ذات تأثير.

زعامات من هذا النوع لاحزاب ومجموعات من هذا النوع ليس في وسعها اقامة نظام ديمقراطي، او حتى ربع ديمقراطي، حتى اذا وُضعت عصا موسى بين ايديها.

وما يعيق نشوء نظام ديمقراطي في العراق ايضا عدم وجود احزاب وحركات سياسية وطنية قوية. فالاحزاب هنا ناشئة على اساس قومي (عربي، كردي، تركماني، كلدو ـ اشوري) او طائفي (سني، شيعي)، اما الجماعات الوطنية التي تضم في صفوفها اعضاء وانصارا من مختلف القوميات والاديان والطوائف فهي ـ باستثناء الحزب الشيوعي ـ محدودة النفوذ والتأثير ومعظمها تكوّن في الخارج او يتكوّن الان في الداخل.

وما يعيق قيام نظام ديمقراطي في العراق الان كذلك ان الاحزاب والحركات الطائفية (الشيعية والسنية) منغمسة في صراعات ومنافسات داخلية على النفوذ والسلطة ومصادر الجاه والثروة، وهي تستغل الدين والمؤسسات والمراكز الدينية ابشع استغلال للدعاية لنوع آخر من النظام الشمولي التسلطي الذي لا يختلف عن نظام صدام الا في بعض التفاصيل.

يحتاج العراق الى فترة نقاهة لكي يبرأ من المرض العضال الذي ألمّ به على مدى العقود الاربعة الاخيرة، وهي فترة ضرورية لتقوية الجماعات الديمقراطية الوطنية الناشئة والتقريب في ما بينها ولتشجيع الديمقراطيين العراقيين على الانخراط في هذه الجماعات، ما سيؤدي من ناحية اخرى الى اضعاف الجماعات غير الديمقراطية التي تتصدر المشهد السياسي الحالي. وخلال هذه الفترة سيتعين على القوات الاميركية والبريطانية ان تؤدي واجباتها بموجب القانون الدولي كسلطة احتلال وانتداب لتطبيع الاوضاع في البلاد وتهيئتها للانتقال الى المرحلة التالية: مرحلة النظام الديمقراطي الذي يحتاجه العراق والشعب العراقي بأمسّ ما تكون الحاجة، وهي مرحلة لن تتحقق بالزعامات السياسية الحالية، وانما بزعامات جديدة.. ديمقراطية عن حق وبالفعل لا بكلام الاستهلاك الداخلي والخارجي.

[email protected]