مستقبل المنطقة العربية..الأمن والازدهار أم التطرف والتخلف؟

TT

تقف المنطقة العربية في هذه الفترة العصيبة عند مفترق الطرق، فإما أن تتجه الظروف والأوضاع نحو الأفضل (الأمن والاستقرار والاعتدال والتضامن والازدهار)، أو تذهب في اتجاه معاكس نحو المزيد من التطرف والتوتر والتمزق والإرهاب والتخلف. وتتصدر قائمة التحديات التي تواجه المنطقة أربع مشاكل متداخلة من شأن التعامل معها أن يحدد مستقبل المنطقة، وفيما إذا كانت ستتجه نحو الاستقرار والتقدم أم نحو العنف والتخلف.

فهناك أولا القضية الفلسطينية وخارطة الطريق، وهناك ثانيا الاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق، ويمثل التطرف والإرهاب المشكلة الرئيسية الثالثة. وأخيراً تأتي مجموعة متعددة من المشاكل وعقبات التنمية، فالاقتصاديات العربية هي من أقل اقتصاديات العالم نمواً وتقدماً، والدول العربية بحاجة إلى تنمية صناعية وتقنية هائلة لكي تتمكن على الأقل من مواكبة الأمم المتوسطة في تقدمها الصناعي. وفي الوقت الذي بدأت فيه أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وبعض الدول الآسيوية في التركيز على تنميتها الصناعية والتقنية في أعقاب انهيار الشيوعية، فإن الدول العربية بُليت بمجموعة من المشاكل والتحديات الداخلية والخارجية التي كانت وما زالت تعيق جهود التنمية الاقتصادية والسياسة العربية.

ولو سألنا المحللين السياسيين العرب عن إمكانية نجاح الدول العربية في تخطي المشاكل والتحديات الحالية، وفيما إذا كانت المنطقة العربية سوف تتجه نحو الافضل أو نحو الأسوأ، لوجدنا ان نسبة المتشائمين منهم تفوق كثيراً نسبة المتفائلين. وهذا يعني أن المنطقة العربية من منظور الكثيرين تسير بخطوات متسارعة نحو الأسوأ والأخطر، وان نظرة التشاؤم هذه لم تكن موجودة في السابق وعوضاً عنها كانت هناك نظرات ورؤى عديدة من التفاؤل السياسي والتفاؤل الاقتصادي فيهما الكثير من المبالغة. فمن مشروع الوحدة العربية إلى مشروع التضامن الإسلامي ومن مشروع السوق العربية المشتركة لمشروع الصناعات العربية الموحدة وغير ذلك من عشرات المشاريع والرؤى والأفكار التي كانت تشتمل جميعها بطريقة أو بأخرى على نظرة متفائلة لعالم عربي متطور ولاقتصاد عربي مزدهر.

نظرة التفاؤل هذه تعيد إلى ذاكرتي مقالة قديمة نشرت قبل حوالي ثلاثين عاماً تقريباً عن المستقبل الاقتصادي لبعض الدول النامية في العالم. واعتمدت المقالة في تحليلها على نموذج مراحل التنمية الاقتصادية Stages of Economic Growth، التي وضعها العالم الاقتصادي الشهير والت رستو. ويتضمن النموذج خمس مراحل أولاها مرحلة الاقتصاد التقليدي وآخرها مرحلة الاقتصاد الصناعي الاستهلاكي المتقدم. وأهم نقطة في خطوات التقدم الاقتصادي التي قدمها رستو، تتمثل في الانتقال من مرحلة التهيؤ للانطلاق إلى مرحلة الانطلاق التي تتضمن نقلة اقتصادية كبيرة تجعل الدولة بعد ذلك قادرة ومؤهلة لدخول مضمار الاقتصاد المتقدم.

والذي يهمني من هذا الأمر الآن، هو أن المقالة التي أشرت إليها صنفت العراق والجزائر من ضمن الدول النامية التي كانت مهيأة خلال النصف الثاني من السبعينات الميلادية للانتقال من مرحلة التهيؤ للانطلاق Pre- Take Off، إلى مرحلة الانطلاق الاقتصادي Take Off، فماذا حدث في الجزائر؟ وماذا حدث في العراق بعد ذلك؟، ولماذا لم تتحقق توقعات المقالة بالنسبة لكلتا الدولتين؟

صناعة الحديد الضخمة التي ورط بها الخبراء السوفيات الجزائر، فشلت فشلاً ذريعاً. كان هذا الفشل هو ربع المشكلة وتمثل ربعها الآخر، كما يعتقد بعض الجزائريين في الإسراع في تعريب برامج التعليم، التي بدأت آثارها تظهر في ذلك الوقت. وأما ثالثة الأثافي المسؤولة عن نصف مشكلة الجزائر، وربما أكثر من نصفها، فإنها تتمثل في عملية تسييس الإسلام، وما أنتجه هذا التسييس من عنف وإرهاب أدخل الجزائر في دوامة قاتمة من المشاكل والأزمات الدموية التي ما زالت تعاني من بعض آثارها حتى الآن. وأما العراق، فتلك قصة أخرى. فلقد رشحت المقالة العراق لدخول مرحلة الانطلاق الاقتصادي في ذلك الوقت بسبب ثروته البترولية وإمكاناته الزراعية ووجود نسبة كبيرة من المتعلمين والفنيين العراقيين ووجود حزب سياسي قادر على التعبئة لتحقيق أهداف التنمية. في ذلك الوقت لم يكن صدام قد برز في الصفوف القيادية في الحكومة العراقية. وكانت القيادة البعثية العراقية عندئذ تشهد، في بداية فترة البَكر، شيئاً من الاستقرار والنضوج السياسي في أعقاب المشاكل والأزمات السياسية التي عصفت بالعراق منذ وصول البعثيين للسلطة في الستينات الميلادية في القرن الماضي، لكن فترة الاستقرار التي كانت تبشر بالازدهار والتقدم لم تدم طويلاً، حيث قفز إلى السلطة في العراق الرئيس صدام حسين وجاء بمنهج دموي جديد لم يعهده العالم العربي من قبل لا في الأنظمة الثورية ولا الأنظمة المحافظة. ولقد ناقش أستاذ أوروبي تطور القيادة البعثية في العراق من مرحلة نزاع السلطة إلى المرحلة التي سبقت صدام، ثم إلى مرحلة صدام بمقالة جيدة تحمل عنواناً متميزاً، عبّر فيه عن مضمونها وعن تطور القيادات العراقية بشكل جيد هو (من عصابة إلى صفوة قيادية إلى عصابة مرة أخرى) From Gang to Elite to Gang Again. فصدام الذي أعاد إلى العراق سيطرة قيادة العصابة، بدا يقتل ويبطش حوله يميناً ويساراً وحاول السيطرة على سوريا بالقوة، ولولا مواجهة الرئيس حافظ الأسد وتصديه له لخضعت سوريا لإرادته وبطشه. وتورط الرئيس العراقي بعد ذلك بالحرب مع إيران، ثم باحتلال الكويت. وتعاني الأمة العربية كلها اليوم من آثار وأعباء ومشاكل الاحتلال الأمريكي للعراق، والذي ساعدت سياسات صدام دون شك على حدوثه، وان مواجهة مشكلة العراق تعتمد اليوم على أمريكا وعلى أهدافها المستقبلية في المنطقة. فأمريكا لن تنسحب من العراق قبل تأسيس حكومة تابعة لها، وقد يتعذر تحقيق هذا الأمر ليس فقط الآن، لكن حتى في المستقبل. ولقد بدأت عمليات المقاومة العراقية ضد جنود الاحتلال الأمريكي تتصاعد يومياً في العراق. ان إنهاء هذه المشكلة هو حقيقة بيد أمريكا وحدها، وكذلك الأمر بالنسبة لتحديد مستقبل المنطقة العربية برمتها. فتوجه المنطقة نحو الاستقرار والازدهار أو نحو المزيد من التطرف والعنف والتخلف يعتمد الآن بشكل رئيسي على الموقف الأمريكي. فإذا وضعت واشنطن خطة واضحة لانسحابها من العراق وتجنبت بعض الممارسات المتعجرفة التي تقوم بها تجاه العراقيين وحافظت على اهتمامها الحالي بتحقيق خارطة الطريق، فإن جزءاً كبيراً من مشاكل المنطقة سوف يبدأ بالتلاشي. فمعالجة القضيتين العراقية والفلسطينية سوف تساعد الدول العربية على مكافحة ومواجهة ظواهر العنف والتطرف والإرهاب الخطيرة.

ويمكن لهذه الأمة بعد ذلك، أن تتفرغ لمعالجة قضايا التنمية العربية بواقعية وعقلانية جديدة وتفاعل أفضل مع الغرب، لكن مرة أخرى ينبغي التحذير من التفاؤل. إن التفاؤل السابق في السبعينات الميلادية أفشله العرب بأيديهم وفي جو الإحباط العام الذي يسود المنطقة العربية في الوقت الحاضر، فهل يمكن تلمّس عناصر جديدة تدفعنا إلى التفاؤل؟، قد يكون الجواب نعم، وقد يكون لا، لكن من المهم التوضيح ان عدم التفاؤل يعني أن الأيام القادمة قد تقودنا إلى أزمات وكوارث أمنية إرهابية لا يعلم أحد عاقبتها على أمتنا العربية إلا الله سبحانه وتعالى.