التكامل الأوروبي بين اليمين واليسار

TT

جهود المجموعة الاوروبية منذ خمسة عشر شهرا لوضع اتفاقية دستورية اوروبية جديدة للتكامل الاوروبي لخمسين عاما أخرى، ولمواكبة التوسع في العضوية، لم تكن لتجيء في توقيت أسوأ. وفي السياسة، والحياة عامة، التوقيت هو كل شيء. فالمناخ السياسي والفكري السائد أدى ـ كما أوضحت المسودة المقدمة من الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان ـ الى عجز الاتحاد الاوروبي عن اتخاذ خطوة جريئة طموحة يمكن ان تكون علامة هامة على طريق التكامل، خاصة لوضع أسس سياسة اوروبية مشتركة في الشؤون الخارجية والدفاع، وما كان سيستتبعه من تقلص التصويت بالاجماع وما يرتبط به من حق الفيتو لصالح التصويت بالاغلبية أو الاغلبية المقيدة.

فقد أدت الخلافات على جانبي الاطلنطي نتيجة حرب العراق الى انقسام، لا داخل التحالف الاطلنطي، ولكن داخل المجموعة الاوروبية ذاتها التي بدت كمعسكرين داخل كيان واحد، محور الخلاف بينهما موقفهما من القطب الأعظم، الولايات المتحدة.

هذا الموقف كان يمكن ان يكون أقل تأثيرا لو كان الحوار السائد في اوروبا الآن هو نفسه الذي ساد في بدايات تكوين السوق الاوروبية المشتركة. فالحوار الجاري حاليا في اوروبا يقلل من شأن اتجاهات الوحدة لحساب أصولية السوق بزعامة الولايات المتحدة، وهو اتجاه يجد صداه بوضوح في اوروبا اليوم. فأغلب أنصار الوحدة نراهم حاليا، داخل اليسار الاوروبي وان كان ذلك بشكل غير مطلق. أما في الخمسينات والستينات من القرن الماضي فالقوى التي دفعت العمل الاوروبي كانت العكس تماما. فالسوق الاوروبية المشتركة انشأتها القوى اليمينية او اتجاه الديموقراطية المسيحية، بينما كانت الديموقراطية الاشتراكية ترى في السوق الاوروبية نوعا من تآمر رأسمالي على المكاسب الاجتماعية التي كافحت طويلا من أجلها. لذلك فاتساع خطوات الوحدة الاوروبية تمثل لشريحة كبيرة من اليسار الاوروبي اليوم الأمل في المحافظة على هذا النموذج الاجتماعي في مواجهة أصولية السوق الطليقة والاحتماء منها، خاصة مع وضع وثيقة حقوق الفرد الاوروبية كمقدمة تبدأ بها الاتفاقية الدستورية الجديدة أو «الماجنا كارتا الاوروبية».

من ناحية أخرى، فحركة الوحدة الاوروبية كانت ـ عندما بدأت ـ رد فعل لحروب انهكت المجتمعات الاوروبية فكانت وثيقة سلام لاوروبا. لكنها اعتبرت في نفس الوقت تكوينا اوروبيا جريئا وله اهميته في مواجهة الخطر الشيوعي، ومن هنا كان تأييد الولايات المتحدة الى حد كبير لخطوات الوحدة الاوروبية. أما وقد انتهى الاتحاد السوفياتي كعدو مشترك، فقد بدأت تظهر الخلافات بين اوروبا والولايات المتحدة لكن أمكن التغلب عليها زمن الرئيس كلينتون، الى ان جاء الرئيس بوش وسياساته الانفرادية في الشؤون الدولية، فبدأت في الظهور الى العلن، وكانت تغذية الانقسام داخل اوروبا احد الملامح الهامة.

لكن أزمة العراق اكثر من أي شيء آخر كانت العنصر الذي كشف عن حجم الخلافات الاوروبية الامريكية ومداها، هذه الخلافات الواسعة التي لا يمكن لتصريحات كتلك في قمة إفيان ان تخفيها لأنها خلافات حقيقية. فأوروبا على مستوى الحكومات والشعوب وسواء اوروبا «القديمة» أو «الحديثة» يسودها قلق عميق من عالم يتم فيه تجاهل الأمم المتحدة والشرعية الدولية، عالم يقود القطب الأوحد فيه غزوا عسكريا لدولة ذات سيادة دون ان يكون له ما يبرره من القانون الدولي، قطب يرى في عدم اكتشاف اسلحة دمار شامل أمرا لا اهمية له في الواقع. وحتى مع الاعتراف بأن العالم أصبح ذا قطب واحد فهذا لا يعني بالضرورة ان العالم يصبح ساحة مباحة للدولة العظمى تتصرف فيه كما يتراءى لها دون رقيب أو حسيب ودون قيود. فمفهوم نظام القطب الواحد يتعارض بشدة مع مبادئ وممارسات الحركة الاوروبية، فالعمل الاوروبي رغم خطوات التكامل يحفظ لكل دولة عضو امكانية الوقوف على قدميها بمفردها، ناهينا عن المبدأ الاساسي في نبذ الحرب والاعلاء من مبادئ التعاون والتعايش. فأوروبا تعارض كل هذه الاتجاهات في السياسة الخارجية الامريكية التي اصبحت بالفعل سياسة عسكرية بالدرجة الاولى، بل ترى فيها سياسة توسعية تهدف الى فرض نفوذها وهيمنتها على مستوى عالمي، حتى وان كان الاعتبار الاقتصادي ليس اهم مكون في هذه السياسة. ان نظرة امريكا للعالم مختلفة بدرجة واضحة عن نظرة اوروبا، وفيما يتعلق بقضية الساعة على مستوى العالم، الارهاب، فموقف امريكا تجاهه موقف عسكري صرف، بينما هو موقف سياسي في اوروبا، ومن هنا تختلف اساليب تناوله، وهو اختلاف لا في الدرجة لكن في نوع السياسات المطروحة. هذه الخلافات في مجموعها أدت الى ان ينظر قطاع كبير من الرأي العام الاوروبي الى الاتحاد الاوروبي بشكل متزايد باعتباره كيانا او قطبا جديدا في مواجهة الولايات المتحدة خاصة من جانب اليسار الاوروبي الذي أصبح من أهم ما يميزه الدفاع عن الشكل الاوروبي للتنظيمات الاجتماعية مع درجة واضحة من معاداة الولايات المتحدة، وبالذات حكومة الرئيس بوش، مثلما يميز اصحاب الاتجاه المعادي لمزيد من الوحدة الاوروبية الاعتقاد في سياسة اقتصادية ليبرالية وتأييد الولايات المتحدة. وفي هذا الاطار يمكننا ان نتابع الخطوات المتغيرة التي تخطوها الوحدة الاوروبية والى حد كبير في ضوء غلبة أي الاتجاهين من يمين أو يسار.

من ناحية أخرى فتصريحات المسؤولين الاوروبيين امثال رئيس المفوضية الاوروبية ومسؤول السياسة الخارجية تنفي علنا احتمال كون الاتحاد الاوروبي منافسا للولايات المتحدة او مناوئا لها وانه اذا وجدت سياسة خارجية ودفاعية اوروبية موحدة، فسوف تحترمها الولايات المتحدة. وشبيه بذلك ما يقول به بعض المسؤولين في الحكومة الاميركية. ولا شك ان في ذلك قدرا كبيرا من الحقيقة لأن قوة الاتحاد الاوروبي مهما بلغت فلن يكون الهدف منها معاداة او مواجهة الولايات المتحدة، فهناك الكثير مما يمكن التعاون بشأنه. فالتعاون الاوروبي الامريكي من شأنه تعزيز السلام في العالم، لكن هذا التعاون وان كان امرا طبيعيا أو مرغوبا فيه لا يمكن ان يقام على مبدأ خضوع طرف لطرف، بل يكون تعاونا بين متساويين وبما يستلزمه ذلك من وجود سياسة اوروبية موحدة سواء في السياسة الدولية او شؤون الدفاع، وعلى خلاف ما يروج له البعض فأوروبا لديها الامكانية لتحقيق طموحها لتصبح قوة دبلوماسية وعسكرية تتناسب مع حجمها الاقتصادي والسكاني وتستطيع ان تملأ الفراغ الذي أدى اليه تدهور حلف الناتو، وتصبح قطبا جديدا في عالم يسعى الى تعدد الاقطاب. فأوروبا الأكثر اتحادا ستكون اكثر ثقة بنفسها بما يسهل تعاملها مع الولايات المتحدة. واذا كانت الولايات المتحدة ترى ان ميزانية دول الاتحاد الاوروبي في التسليح تساوي %60 من ميزانية تسليح الولايات المتحدة في حين ان قدرات الاتحاد الاوروبي الدفاعية لا تمثل الا %10 من قدرات الولايات المتحدة، فإن للمفوضية الاوروبية رأيا آخر. ففي تقديرات رومانو برودي رئيس المفوضية ـ وهو اقتصادي بالأساس ـ ان ميزانية الدفاع الاوروبية ليست هزيلة كما يتصور البعض وانه اذا تم تنسيق سياسات مشتروات العتاد العسكري أو في مجال التصنيع العسكري فالاتحاد الاوروبي يمكنه ان يضاعف قدراته الدفاعية ست مرات بنفس مستوى الانفاق، كذلك فهناك مليونا جندي اوروبي مقابل مليون واحد ونصف مليون جندي امريكي.

في كل الاحوال، علينا ان نتذكر ان كل ما احرزه الاتحاد الاوروبي من انجازات هائلة كان يبدو مجرد التفكير فيها كحلم طوباوي او هدف مستحيل، لكن الجرأة الفكرية لقادة العمل الاوروبي مكنت من تشييد عمارة سياسية واقتصادية فريدة من نوعها وتوصل الاتحاد الاوروبي لسياسة خارجية دفاعية مشتركة لن يكون مستحيلا. وكما قال اندريه جيد «يحكم على الشجرة بثمارها».