استعادة حلم لا نهاية له

TT

كان ذلك منذ ما يربو على 30 عاما عندما وقعت في حب فلسطين. وقد حدث في عام 1971 عندما كنت في لبنان أجري بحثا حول رسالة الدكتوراه التي أعددتها. حينها وجه لي الروائي الفلسطيني الرائع غسان كنفاني نصيحة مفادها «إذا أردت أن تعرف المزيد عنا فعليك التوجه إلى المخيمات وزرع نفسك بين الناس».

وهكذا توجهت نحو عين الحلوة لقضاء بعض الوقت مع عبد، صديق جديد قدمني لأسرته، ولعدد آخر من اللاجئين الذين لا يمكنني نسيانهم. وخلال الفترة التي قضيتها معهم، رووا لي حكايات عن المنازل والقرى التي تركوها في فلسطين، وعن ألم رحيل عام 1948، وعن حياتهم في المخيمات، التي يعتبرونها «فلسطين المؤقتة».

عرضوا عليّ أيضا صورا فوتوغرافية وغيرها من الأشياء التي تذكرهم بالحياة التي كانت، وأهمها مفاتيح منازلهم التي غادروها وما زالوا يأملون في العودة اليها.

ورغم مأ أثارته تجربتي تلك من مشاعر الاكتئاب، الا أن لمسة جمال كانت في عين الحلوة. فعلى الرغم من حالة البؤس والفقر التي بدت على المخيم، الا أن الزائر يشعر بوضوح بمدى قوة عزيمة البشر وقدرتهم على الإبداع والتمسك بالأمل. فلقد تأسس عين الحلوة باعتباره نموذجا آخر الفلسطين. وقد امتزج سكانه معا في أحياء تعكس البلدات والقرى التي تعرضوا للطرد منها.

كل حي في المخيم يحمل اسم المنطقة الفلسطينية التي جاء سكانه منها. وبينما كنت أتجول في شوارع عين الحلوة، مررت بصفاف ورأس الأحمر وصفد، تركت ممرات المخيم الترابية غير المسفلتة ودخلت أحد منازلها لأجد أمامي عالما مختلفا. كانت هناك ساحة خضراء تغطيها أفرع شجرة عنب متشابكة، مزروعة بداخل برميل.

تلك هي منازلهم التي شيدوها لتذكرهم بمنازل قراهم الفلسطينية. وتلك العائلات، كالعديد من العائلات الأخرى التي قابلتها، لم تستسلم لليأس. ففلسطين بالنسبة لها ليست مجرد ذكرى، بل حقيقة معاشة. وقد حملوا فلسطين معها. كما جعلوها تنبض في رواياتهم وفي مساكنهم الجديدة المؤقتة. وقد كانوا مصممين على العودة اليها.

ما اثار اهتمامي في نهاية المطاف هو جمال تلك الذكريات، ومدى قوة هذا الأمل. كانت الروايات التي حكاها لي اللاجئون مؤلمة للغاية في تفاصيلها، و بريئة للغاية في المشاعر التي نقلتها، ومباشرة للغاية في بساطة العدالة التي ينشدونها.

كانت تلك الأشياء، كما توفرت لدي قناعة في ما بعد، هي التي جعلت فلسطين تنبض بالحياة. تلك الأشياء، لا الاختطافات أو رشاشات كلاشينكوف، هي التي وفرت الدعم لقضية عادلة وطالبت المجتمع الدولي بأن يستجيب لها.

ولأنني كنت على وشك أن أكتشف ذلك، حيث باتت قوة الأمل الفلسطيني تلك مادة خصبة للفنانين الفلسطينيين. فقد غمست نفسي في إبداعاتهم. فالشعراء كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد والرسامون ككمال بلاطه وإسماعيل شموظ والروائي غسان كنفاني ـ جميعهم عبروا بصوت واحد عن أحلام وحكايات شعبهم وعن مطلبهم في الاعتراف بهم ـ حتى يتسنى للآخرين تقدير حجم ما فقدوه، واحترام حقهم في العدالة.

ما يثير قلقي الآن هو حجم ما فقد أو تم تجاهله من هذه الأشياء. فالحكايات لم تعد تروى، والشعر لم يعد متوفرا منذ سنوات، كما لم تعد الرسومات تعرض على الناس. ويتوجب على الجيل الجديد الذي يرغب في معرفة المزيد حول فلسطين، أن يفعل ذلك بواسطة قصص الأخبار المستجدة، و الهراء السياسي وما شابهه.

قد يتساءل البعض، وهم على حق، عن كيفية تمكن الرأي العام المرتبك من دعم حقوق اللاجئين وقد تعذر عليهم رؤيتهم؟

وكيف يمكن لجيل جديد أن يستشعر ويتعلم عشق الحلم الفلسطيني، وهو غير قادر على التعرف عليه؟

وكيف يمكن للمطلب الفلسطيني بتحقيق العدالة أن يحظى بالدعم وقد انحصر التعبير عنه من قبل المدافعين عنه، في العويل أو الجدل الغاضب؟

ما يحدث ليس معناه أن لا أحد يدافع عن القضية الفلسطينية، بل إنها تعرض على الملأ بشكل جاف ـ بلا ملمح ولا حكاية إنسانية.

ما يثير قلقي الآن بالتالي، هو أنه مع كل هذا الاهتمام العالمي بفلسطين، الا أن أصل الحكاية لم يعد يروى. وقد تمكن الجانب الإسرائيلي، كما هو حاله منذ عقود، من تحديد كيفية عرض القضية. ونتيجة لذلك، فقد باتت الصور السائدة عن فلسطين هي تلك المحصورة في منفذي عمليات التفجير أو في السلطة غير الفعالة ـ وقد بات الشعب غير مرئي وباتت حكاياته غير مسموعة.

كان ذلك هو السياق الذي استمعت في إطاره لرئيس الوزراء الفلسطيني الجديد محمود عباس عندما تحدث في العقبة. كانت صرخته المتعلقة بـ«عدم عسكرة الانتفاضة» دعوة حظيت بالترحيب، لكي يعيد الفلسطينيون التركيز في نضالهم، لكن على ماذا؟

فحتى في الوقت الحاضر لم تعد القيادة الفلسطينية تروي حكايات، ولم تعد تضفي على المعاناة الفلسطينية ملمحا إنسانيا، كما إنها لم تعد تصغي للآمال والأحلام الفلسطينية. وهذا، كما أعتقد، يعد خسارة.

ما من شك في ان الواقع الفلسطيني هذه الأيام مأساوي. فاللاجئون ما يزالون في مخيماتهم ومعهم مفاتيحهم وآمالهم، وقد تغلبوا على ما يزيد عن نصف قرن من الشتات والاستعباد والتشرد.

وفي الضفة الغربية وغزة، ما يزال من تبقى من الفلسطينيين يتعرضون للتعذيب من قبل إحتلال يتزايد تعسفه بإستمرار إلى الحد الذي يروج لمقولة «إن الأمور لا يمكن أن تزداد سوءا».

وترسم المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية صورة مذهلة من الحرمان. وكل ذلك أدى إلى حالة من الغضب والإحباط.. مزيج قابل للتبخر. وهذا هو الواقع.

على أن أولئك الذين ينمون حالة الغضب هذه، ويعملون على استغلالها، ثم يقومون بإرسال الشباب من الفتية والفتيات في مهمات انتحارية تفضي بهم إلى الموت، لا رؤية لهم ولا يمكنهم الإتيان بالتغيير المطلوب وبالأمل. ذلك أن على الزعامة أن تفعل أكثر من مجرد الشكوى أو الإثارة. عليها تلمس تطلعات الشعب وتحفيز الأمل والسعى للحصول على الدعم.

أبو مازن كان محقا عندما دعا إلى وضع نهاية لعسكرة الواقع الفلسطيني. فالرغبة في الانتقام ليست رؤية، والموت لا يجلب الأمل.

ما زلت أتذكر تلك الأمسية التي قضيتها مع توفيق زياد، الذي كان حينها عمدة الناصرة، قبل ما يربو على عقدين من الزمن. كنت أرافقه في جولة بأنحاء الولايات المتحدة، تحدث خلالها في مناسبة تخص الجالية العربية. كانت الدعوة قد وجهت اليه ليتحدث خلال فعالية لجمع التبرعات مولتها جماعة فلسطينية محلية. وقد أطلق على تلك الأمسية «الاحتفال بالفولكلور الفلسطيني». وقد تم من خلالها عرض نماذج من رقصة الدبكة والأزياء التقليدية والشعر الفلسطيني.

وفي لحظة ما من برنامج الحفل، أقبلت نحو المنصة مجموعة من الأطفال الراقصين وهي ترتدي الزي العسكري وتحمل بنادق خشبية. حينها شعر توفيق بالإنزعاج الشديد. وقد التفت نحوي وقال «هذه ليست ثقافتنا أو تقاليدنا. هذا للأسف هو ما أجبرنا عليه. وهي مسألة لا تستحق الاحتفال».

كلماته تلك ما زالت واقعية حتى اليوم. وعندما أرى الآلاف من الشباب الفلسطيني الغاضب يحتفلون بعملية تفجير، أتذكر موعظة توفيق زياد.

لابد من طرح الموقف الفلسطيني بشكل متجدد. ولابد من وضع استراتيحية سياسية جديدة. وحكايات الفلسطينيين وأعمالهم يجب أن تعكس بساطة جمال وقوة الشعب الذي ما يزال يتمسك بالأمل في ألا ينسى العالم تاريخه وأن تتجدد ولادة فلسطين.

وفي ظل هذا السياق يمكنني القاء الضوء على مؤشر يبعث على التفاؤل

فقد ظهر مقال أخير في جريدة فلسطينية تحدث فيه كاتبه عن امكانية قيام الفلسطينيين بحملة واسعة في أنحاء البلاد للتعبير عن رأيهم. وقد تساءل الكاتب، لم لا يتم تنظيم مسيرة تتوجه إلى مقر المقاطعة للمطالبة بحرية الرئيس؟ ولم لا يتم تنظيم مظاهرات هائلة أمام نقاط التفتيش؟ بلا حجارة، وبلا بنادق، فقط بالتسلح بالقوة المعنوية للعدالة وبقوة الشعب وبحلمه بالحرية.

مع «خريطة الطريق» أو من دونها، يحتاج الفلسطينيون لاستراتيجية ترفض الموت وتستند الى قوة الشعب وأمله المبدع.

وها هو العالم من حولنا يتطلع للتأثر بتاريخ الشعب الفلسطيني وأحلامه. وعلينا أن نعرض عليهم رؤية لفلسطين التي يمكن أن يقبلوا عليها.

* رئيس المعهد الأميركي ـ العربي في واشنطن