المنتدى الاقتصادي العالمي والمشروع الشرق أوسطي

TT

لقي المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد في البحر الميت مؤخرا، وضم مئات الشخصيات الدولية السياسية والاقتصادية والاكاديمية والدينية، اهتماما عالميا وعربيا خاصا، بسبب تركيزه في هذه الفترة العصيبة على قضايا ومشاكل الشرق الاوسط، وخاصة القضية الفلسطينية والعراق، بعد الاحتلال الامريكي والبريطاني.

والمؤتمر كما يعتقد البعض هو تدعيم للمشروع الشرق اوسطي الذي بدأ ينافس المشروع العربي منذ بداية التسعينات الميلادية، والمشروعان العربي والشرق اوسطي يعكسان حقيقة رؤيتين مختلفتين لمستقبل المنطقة: الأولى رؤية عربية، والثانية رؤية شرق اوسطية. واذا لم تتمكن جهود المهتمين بمستقبل هذه المنطقة العربية الشرق اوسطية من تحقيق الانسجام والتفاعل بين الرؤيتين والمشروعين العربي والشرق اوسطي، فلن يكون بإمكان جميع المؤتمرات المشابهة للمنتدى الاقتصادي العالمي ان تنجح في تحقيق اهدافها المرجوة في المنطقة، وفي مقدمتها الامن والسلم والاستقرار والتقدم والازدهار، فما هي طبيعة ومنشأ الاختلاف بين الرؤيتين العربية والشرق اوسطية؟ وهل يمكن تحقيق الانسجام والتفاعل بينهما؟ اي هل يمكن تحويلهما من رؤيتين لمشروعين متناقضين ومتنافرين الى مشروعين متكاملين ومتعايشين ومنسجمين؟

الاختلاف بين الرؤيتين العربية والشرق اوسطية هو اختلاف قديم، وقد يكون الدكتور علي الدين هلال وزير الشباب والرياضة المصري واستاذ العلوم السياسية المتميز، هو اول من اوضح بلغة اكاديمية علمية حديثة الفرق بين الرؤيتين العربية والشرق اوسطية في مناقشته للنظام الاقليمي العربي، التي صدرت قبل حوالي عشرين عاما. ويعود الاختلاف بين الرؤيتين الى فترة تأسيس الجامعة العربية وقيام دولة اسرائيل خلال النصف الثاني من الاربعينات الميلادية، وتعمق بعد ذلك الاختلاف والتنافر بين الرؤيتين العربية والشرق اوسطية، واصبح من الواضح ان المسألة لا تتعلق باستخدام مصطلحات ومسميات جغرافية مختلفة لنفس المنطقة، ولكنها تعبر عن دلالتين سياسيتين متناقضتين ومتعارضتين. فلقد اصر الاستراتيجيون والمحللون السياسيون في امريكا واوربا على استخدام مصطلح الشرق الاوسط ـ كما يعتقد بعض المفكرين العرب ـ تهميشا منهم لفكرة الوطن العربي واضعافا لمشروع التضامن العربي، لانهم شعروا بأن هذا المشروع كان موجها ضد اسرائيل.

ولقد ارتبط المشروع العربي في السابق بتحقيق الوحدة العربية وبالقضاء على اسرائيل، ولكن الاختلافات والمنازعات وحتى الحروب العربية ـ العربية، حالت دون تحقيق الوحدة العربية واضعفت حتى من عملية التضامن العربي. ولم تتمكن الجامعة العربية بوصفها الآلة المؤسسية للنظام الاقليمي العربي من تسوية الاختلافات العربية ـ العربية باستثناء حالات محدودة جدا، ولم يقتصر فشل المشروع العربي على مسألة تحقيق الوحدة العربية ولكنه فشل ايضا في مواجهة اسرائيل التي حققت انتصارات عسكرية كاسحة ضد الدول العربية، ولقد ادت اعتبارات التفوق العسكري لاسرائيل الى قبول الدول العربية، منذ نهاية السبعينات الميلادية لمبدأ التعايش السلمي مع اسرائيل، وهو الامر الذي احدث تغيرا جذريا في مضمون المشروع العربي. وتأثر المشروع العربي ايضا بتطور المشروع الاسلامي الذي اعطى لايران ولافغانستان (من خلال الافغان العرب) دورا رئيسيا في التأثير بتفاعلات السياسة العربية والشرق اوسطية. ولكن وعلى الرغم من كل هذه المشاكل والتحديات، فلقد حافظ المشروع العربي على وجوده واصبح يركز على تدعيم آليات ووسائل التضامن العربي لمواجهة الاخطار والتحديات الامنية الداخلية والخارجية ولتحقيق التنمية العربية الشاملة.

وفيما يتعلق بتطورات الرؤية الشرق اوسطية فبعد ان قبل العرب بمبدأ التسوية السلمية مع اسرائيل، سعت امريكا وبعض الدول الاوربية لتحويل الرؤية الشرق اوسطية الى مشروع شرق اوسطي يشتمل على وضع صياغة جديدة للمنطقة، تضمن قبول العرب لاسرائيل وتطبيع علاقتهم معها. ولتحقيق هذا الهدف تم في التسعينات الميلادية عقد عدة مؤتمرات اقتصادية وسياسية عالمية في بعض الدول العربية. ولكن هذه المؤتمرات واجهت اشكالية كبيرة لانها كانت تسعى الى التطبيع مع اسرائيل قبل تحقيق التسوية السلمية الشاملة. ولهذا السبب فلقد ابدى الكثير من السياسيين والمثقفين العرب العديد من التحفظات على هذه المؤتمرات التي لم تنجح لا في تحقيق التطبيع ولا في وضع آلية جديدة للتفاعل العربي مع اسرائيل. ولقد اثارت مثل هذه المؤتمرات وما زالت تثير مخاوف الكثيرين من السياسيين والمثقفين العرب، لانهم يرون فيها تحديا قويا وواضحا للمشروع العربي التضامني، ولم يسلم منتدى البحر الميت الاقتصادي الاخير من هذا التخوف والتحفظ. فلقد اعتبره بعض المفكرين العرب بمثابة اعادة احياء للمشروع الشرق اوسطي الذي يهدف اصلا الى تحدي المشروع العربي ويسعى الى القضاء عليه. واذا تأملنا في عناوين موضوعات وحلقات النقاش المدرجة في المنتدى فسوف نجد مبررات واضحة للحذر العربي وللمخاوف العربية من هذه المؤتمرات التي تتبنى المشروع الشرق اوسطي. فليس هناك اي ذكر في عناوين ومسميات حلقات النقاش لعبارتي العرب والمسلمين، فلقد تضمنت حلقات النقاش موضوعات مثل (مستقبل الشرق الاوسط) و(تحديات الشرق الاوسط) و(مؤسسات الشرق الاوسط) و(سياسات الشرق الاوسط)، ولكن وعلى الرغم من ان الغالبية العظمى لدول الشرق الاوسط هي دول عربية اسلامية فلم تخصص ولا حلقة نقاش واحدة تحت مسمى السياسات العربية او الاقتصادية العربية. وحتى الصدمة العربية والاسلامية من الاحتلال الامريكي للعراق فلقد تمت مناقشتها تحت عنوان (بعد العراق: موجات الصدمة عبر الشرق الاوسط وخارجه). فهناك تجنب واضح مقصود لاستخدام مصطلحي العرب والمسلمين في عناوين مناقشات هذا المؤتمر المخصص للشرق الاوسط، علما ان الاسلام والعروبة هما قلب الشرق الاوسط وجوهره سواء قبل الآخرون بذلك ام لم يقبلوا. ولا يمكن لهذه المناقشة ان تكتمل دون اثارة التساؤل عن امكانية تجاوز مشكلة الاختلاف والتنافر بين المشروعين العربي والشرق اوسطي وتحويلهما من مشروعين بديلين متناقضين الى مشروعين متكاملين متداخلين ومنسجمين؟ اعتقد ان تحقيق التعايش والتكامل بين المشروع العربي والمشروع الشرق اوسطي هي مسألة ممكنة وليست مستحيلة. فلقد اصبح المشروع العربي اكثر واقعية بسبب ظروف التحديات والمشاكل التي واجهته. وقبل العرب بالسلم مع اسرائيل وهم مستعدون لتطوير الية جديدة للتعايش والتفاعل معها. وذهب عمرو موسى امين عام الجامعة العربية المعروف باهتمامه الشديد بالمشروع التضامني العربي الى منتدى البحر الميت ولم يقاطعه او يتخذ موقفا معارضا له. وان المشاركة العربية الفعالة في المنتدى الاقتصادي تؤكد ان العرب مستعدون لقبول اطار تفاعلي شرق اوسطي جديد شريطة ان لا يستخدم هذا الاطار لتهديد المشروع التضامني العربي، وان لا يمس بأسس ومقومات الشخصية العربية والاسلامية. والكرة الآن ليست في المرمى العربي، بل هي في مرمى الذين يسعون لتطوير المشروع الشرق اوسطي في المنطقة. فلكي ينجح هذا المشروع ينبغي ان يقتصر على تطوير صيغة او آلية جديدة لتفاعل وتعايش الدول العربية مع اسرائيل. ولا ينبغي لهذا المشروع ان يحاول الغاء المشروع العربي او معارضته او التنافس معه. فالشرق الاوسط بصفة عامة هو عربي في هويته وثقافته، ويمكن لاسرائيل ان تكون جزءا جغرافيا منه وان تعيش بسلام وتحافظ على ثقافتها وهويتها الخاصة بها وان تتفاعل مع دول المنطقة ضمن الاطارين السياسي والاقتصادي، فلا بد لمشروع التضامن العربي ان يبقى ويتبلور، ويمكن ان يتطور الى جانبه المشروع الشرق اوسطي الذي يتضمن وضع اطار التفاعل والتداخل العربي مع اسرائيل.