المخبر

TT

يحتفل الادب الانكليزي والعالمي بذكرى مرور مائة عام على ولادة جورج اورويل، صاحب «الشقيق الاكبر»، قصة الحكم الديكتاتوري و«مزرعة الحيوان» المعادية للسوفيات، و«مشرد في باريس»، ذكريات شبابه البائس، وسواها من الروائع التي كتب معظمها في شكل سيرة ذاتية.

وقد دخل اورويل الادب الكلاسيكي في العالم. واعيد طبع اعماله عشرات المرات في معظم لغات الارض. ولكن كبار الادباء لا يزالون يلاحقون ذكراه بتلك الوصمة التي ختمها على جبينه الى ما بعد الموت، وهي انه في مرحلة ما، كتب تقارير الى المخابرات البريطانية عن عدد من الادباء والفنانين، بينهم ج. بي. بريستلي وشارلي شابلن، وعن مدى تعاطفهم مع الشيوعية. وكان والت ديزني قد اعطى السينما اكثر فنونها سحرا، اي الشخصيات الخيالية الجميلة في الرسوم المتحركة، وبنى للاطفال حول العالم دنيا من الفانتازيا والجمال والسحر والاساطير. لكن بعد موته اكتشفت اميركا بقعة سوداء على جبينه، وهي انه كان يكتب التقارير عن زملائه الى الاف. بي.آي. ووجهت التهمة نفسها الى اثنين من اكثر نجوم هوليوود وسامة هما ايرول فلين وكاري غرانت. كما وجهت الى رونالد ريغان الذي كان لا يزال يقوم بأدوار الرجل الثاني قبل ان يحتل مقعد الرجل الاول في اميركا.

يسمي الغربيون التعاون التبرعي حتى مع اجهزة مخابرات البلاد، وحتى في زمن الحرب، وشاية او خيانة للمسلك المهني، بعكس الرجل الذي تكون مهمته الشرعية الرسمية، «الانتلجنس». وهي الاستخبار من اجل الامن الوطني وحماية البلاد ولكن من دون ضرب وقتل واقبية وخوات، لكن النمامين والوشاة وازلام المخابرات والزحافين وهادري القيم والاخلاق والذين لا ود لهم ولا وجه، هؤلاء لا يغفر لهم حتى لو بلغوا في الدنيا مكانة اورويل او ديزني.

ولا عذر لهذه الفئة من المخلوقات ولا تبرير. فالتبرع هنا، نميمة مهما كان عذر صاحبها. فلا الحاجة المالية ولا اي حاجة اخرى تبرر التخلي عن الشرف والشهامة. والا لبرر الانسان لنفسه كل شيء بداعي الضعف ولحظات الضعف. وهناك اشياء قد تقبل في ساعات «الضعف» او «التخلي»، كالقتل دفاعاً عن النفس، او الاستعطاء في الشارع اذا جاع اطفاله، او البحث في اكياس القمامة عن قوت. لكن الانضواء في زمر الوشاية والنميمة والكذب والافتراء والتجني على حياة الناس وكراماتهم ونقائهم وارزاقهم وطهارتهم، لمجرد رغبة في الوصول، هي عمل لا اخلاقي.

عندما اعتقل الاميركيون برزان التكريتي في بغداد، قال احد الزملاء ان اول ما سوف يصطدمون به هو اسماء المخبرين الصغار الذين كانت الصحافة عملهم الفرعي، واما عملهم الحقيقي فكان الوقوف على ابواب السيد التكريتي ومعهم لائحة باسماء زملائهم واصدقائهم وكل من وقع في طريقهم. او حتى من لم يقع. وهؤلاء طبعاً ليسوا اورويل ولا ديزني. هؤلاء يدخلون الحياة ويخرجون وهم ليسوا سوى مخبرين، قوتهم الحقيقي ليس مما يجنون في العلن بل مما يفترون في السر.

يرتكب القلم احياناً اخطاء كبرى في حق نفسه: نبدأ بجورج اورويل ثم تنحدر بنا افكارنا، او الضعيف من ذاكرتنا، الى اولئك الذين لا يخطرون للذاكرة الا في اعتقال السيد برزان التكريتي واستجوابه! انا احب جورج اورويل، واقرأه باستمرار منذ سنوات طويلة جداً. احب اسلوبه الثري بالوقائع، وموقفه من الامبريالية البريطانية وايضاً موقفه من التوتاليتارية السوفياتية التي هي مسؤولة عن نصف ما في هذا العالم من تخلف وجريمة وفكر تعذيبي. وايضاً كنت احب شارلي شابلن وموقفه الانتقادي من اميركا. اما كيف يمكن ان تحب اورويل وشابلن معاً، فالسبب بسيط: لأنك حر وتملك حق الاختيار الانساني.