الفاشية تروج للخوف من أميركا

TT

أجواء الفاشية المخيمة على الولايات المتحدة أصابت برذاذها في الاسبوع الماضي خافيير سولانا مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي، الذي تعرض لهجوم شديد واتهم بالعداء للسامية، لمجرد انه قال كلاما مخالفا للنصوص المقررة على العقل الاميركي، ولاشك ان الرجل محظوظ لان الذين هاجموه «تسامحوا» معه، ولم ينسبوا إليه اتصالا بتنظيم «القاعدة»، أو تلقي أموال من النظام البعثي في العراق، ومن ثم اتيح له ان يغادر الولايات المتحدة وان يعود سالما الى مقره في لوكسمبورج.

خلاصة «الجريمة» التي ارتكبها الرجل انه ذهب بحسن نية الى اجتماع مغلق مع اعضاء لجنة العلاقات الدولية بمجلس النواب الاميركي، ونفى هناك ان ثمة عداء للسامية في أوروبا، كما دافع عن ضرورة استمرار الاتصالات مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، قائلا ان من شأن تلك الاتصالات ان تشجعه على دعم أبو مازن وتأييد خريطة الطريق، ولان الابواق الاعلامية الاميركية قررت ان العداء للسامية يتزايد في أوروبا لكي يستمر التعاطف مع اليهود، وان اسم ياسر عرفات يجب ان يختفي من دائرة الاتصالات السياسية، حتى ان كان وجوده يعزز موقف أبو مازن ويساعد على تمرير خريطة الطريق، لان هذا هو الاطار المرسوم، فكان من الضروري ان يهاجم خافيير سولانا لأنه خرج على الخط، وبدا شخصا مارقا وغير متجاوب مع «المصلحة الاميركية العليا»، هذا الخروج فوجىء به بعض اعضاء الكونجرس، فأبدوا دهشتهم، وقالت واحدة من أبرز أولئك الاعضاء ـ ايلينا روس ـ انها «ذهلت» لما سمعت، وكان مصدر الذهول انها سمعت رأيا آخر مختلفا عما ألفته واعتادت عليه.

هذا نموذج مصغر ومبسط للغاية يعكس أجواء الإرهاب الفكري السائدة في الولايات المتحدة، التي أصابت المجتمع بلوثة سممت علاقته بأي جهة أو شخص قد يختلف معه في الرأي، خصوصا في ما يتعلق بالقضايا الحساسة مثل اسرائيل والأمن والإرهاب وأحداث الحادي عشر من سبتمبر... إلخ، ذلك ان كتلة المحافظين الجدد ذوي الميول الصهيونية والتطلعات الامبراطورية، فرضوا على المجتمع قراءة نمطية معينة لملفات هذه القضايا وأمثالها، وقد تبنى الاعلام الجبار والشرس تلك القراءة، ونجح في حفرها في أعماق الناس، ومن ثم تحويلها الى رؤى مقدسة أو مسلمات ايمانية لا تقبل المناقشة، فضلا عن المراجعة أو التعديل، واذا ما عنَّ لأحد ان يتبنى قراءة مغايرة، ولو في جزئية صغيرة، فان الميليشيات المسعورة تلاحقه وتظل تنهش في لحمه حتى تقضي عليه أو تسكته، بحيث يتم اقصاء كل رأي مغاير، وبحيث يتحول التسليم بالقراءة المقررة الى نوع من الايمان والتسليم المطلقين.

كما فعل الاسرائيليون في موضوع الهولوكوست، وقرروا ان ضحاياه ستة ملايين شخص لا ينقصون واحدا، وقطعوا بأن هؤلاء قتلوا بواسطة أفران الغاز، واصبحت تلك الرواية محصنة ضد أي طعن أو نقض، بل اصبح كل من يشكك فيها معرضا للملاحقة القضائية والسجن، فان الاميركيين فعلوا نفس الشيء في صدد قراءة وتحليل الملفات سابقة الذكر.

تحضرني في هذا الصدد مفارقة لافتة للنظر وقع فيها المستشرق اليهودي المعروف برنارد لويس في كتابه «أين الخطأ»، إذ رغم نقده اللاذع للدولة العثمانية، إلا انه أنكر انهم اضطهدوا الأرمن، واستهجن قيام الأمم المتحدة باصدار قرار يلزم تركيا بتعويضهم عن التطهير العرقي الذي تعرضوا له، أسوة بما حدث من الزام المانيا بتعويض اليهود عن «المحرقة»، وقد تبنى برنارد لويس هذا الموقف المستغرب التزاما منه بالموقف الصهيوني التقليدي الذي يرفض الاعتراف بما تعرض له الأرمن من مذابح على يد العثمانيين، حتى تظل فكرة اضطهاد اليهود تحتل موقعها المركزي وتستأثر وحدها بالاهتمام والاضواء في الضمير العالمي، وبحيث لا يبقى اضطهاد في الذاكرة الانسانية، إلا ذلك الذي اصاب اليهود من دون غيرهم من كل بلاد الدنيا، نموذج القراءة المفروضة، الذي يخدم العناصر الفاشية المتحالفة مع الصهيونية اصبح شائعا لدرجة أصابت مختلف الدوائر بالخوف من مجرد الجهر بالاختلاف، وهو ما يفتح باب الجحيم على اولئك المخالفين مهما علا مقامهم.

سمعت من بعض الاكاديميين الاميركيين المحترمين الذين زاروا القاهرة مؤخرا شكواهم المرة مما يتعرضون له من ضغوط وترهيب، لالزامهم بالسكوت وعدم توجيه أي نقد، أو الجهر بأي رأي مخالف للسياسات التي تتبعها الادارة الاميركية، خصوصا في الموضوعات الحساسة التي اشرت اليها، وجميعا اصبحوا يعرفون ان وقوع اي منهم في محظور النقد أو المخالفة في الرأي يهدد بالقضاء علي مستقبلهم العلمي والسياسي ان وجد، لن تتخذ ضدهم اجراءات قضائية، بل ربما كان ذلك أمرا سهلا، حيث سيجد محامين يدافعون عنه ولو بمبالغ طائلة، وإنما سيتم اغتيال الواحد منهم معنويا عن طريق التشهير به عبر وسائل الاعلام، والتشكيك في وطنيته، أو اتهامه بالعداء للسامية، أو تلفيق التهم الضرائبية أو حتى الجنسية له، الأمر الذي يؤدي الى تشويهه وحصاره وتدميره معنويا، ومثل ذلك الاغتيال الذي يتعرض له، يؤدي الى احراج المؤسسات العلمية التي يعملون بها، لان التشهير سيصيبها ايضا، وسيثير ذلك ضدها حملة مقاطعة قد يترتب عليها التأثير على مصادر تمويلها، وتهدد بوقف نشاطها واغلاق أبوابها.

واذا كان ذلك حظ الاكاديميين، فمشكلة السياسيين أكبر، ذلك ان اي عضو في أي مؤسسة منتخبة يعرف جيدا انه مهدد بالتدمير وبالاغتيال السياسي والمعنوي اذا رفض الانصياع لمنظومة الآراء المفروضة، وعبر عن رأي مخالف بأي درجة فيما يخص اسرائيل والفلسطينيين، وتلك إحدى مسلمات الحياة السياسية الآن، وهناك نماذج حية في الذاكرة لمرشحين أو أعضاء في مجلس النواب أو الشيوخ وقعوا في المحظور فكانت تلك نهايتهم، وقد عرف الجميع من واقع تلك الخبرات ماهي عناوين وحدود طريق النجاة والسلامة، وتلك التي تخف بطريق الفشل والندامة.

واذا كان ذلك حظ الاكاديميين والسياسيين، فالفنانون ليسوا أفضل كثيرا، فالذين عارضوا الحرب منهم صوبت نحوهم سهام التشهير حتى اضطروا الى الركوع والاعتذار، وفتيات فرقة «ديكس تشيكس» الغنائية الثلاث لم ينتبهن الى خطورة المعارضة، فقلن في لندن كلاما سجلن فيه موقفا ناقدا للحرب ضد العراق، فانهالت عليهن حمم الجحيم من كل صوب، قوطعت الاغاني التي يقدمنها، وحطمت الاسطوانات التي تحمل اسماءهن، أما الحفلات التي كن قد تعاقدن عليها في انحاء الولايات المتحدة فقد ألغيت تباعا، ولم تتوقف الحملة إلا بعد اعتذارهن على شاشات التلفزيون عما بدر منهن، وقد قدمت احداهن اعتذارها وهي باكية.

أتحدث هنا عن المواطنين الاميركيين الاصليين من غير المسلمين، أما اذا كان ذلك المواطن مسلما ومن أصول شرق أوسطية فمصيبته أكبر، فهو من الفئة المستباحة التي لا حقوق لها ولا كرامة، كما بينت فيما كتبت قبل اسبوعين.

من مفارقات هذا المشهد اننا نتلقى منذ حين دروسا ومواعظ اميركية في أصول ومبادىء الحرية والديمقراطية، وان المنتدى الذي عقد على شاطىء البحر الميت في الاردن أحدث مناسبة لاطلاق تلك الدروس والمواعظ، وفيما تكثف واشنطن من حملتها وخطابها الديمقراطي، فانها تتجاهل عمدا مدى اتساع دائرة الخوف داخل الولايات المتحدة ذاتها، بل انني سمعت من أحد الأصدقاء الاميركيين من ضحايا ذلك الخوف ان العناصر الفاشية في الادارة الاميركية اصبحت تنتهج ذات الاساليب المتبعة في العالم الثالث، حيث باتت ترفع من درجة الطوارئ الى المستوى البرتقالي، لتخويف الناس وإرعابهم، كلما تفاقمت مؤشرات الحالة الاقتصادية، لصرف انتباه الناس عن أزمتهم المعيشية الخاصة واشغالهم بالمخاوف الأمنية العامة، وقد لاحظت تشاؤم الرجل من احتمالات تجديد رئاسة جورج بوش، وتخوفه من ان يؤدي ذلك الى توحش فريق الغلاة المتصهينين في الولاية الثانية، حتى انه اصبح يهيئ نفسه للهجرة خارج البلاد، اذا ما وقع ذلك الاحتمال الذي يعتبره «الأسوأ في التاريخ الأميركي».

[email protected]