الدولة الريعية .. مجلس التعاون الخليجي نموذجا

TT

يعود مصطلح الريع إلى ما تجنيه اسبانيا من الذهب الأميركي.. ومن ثم لبس هذا المصطلح على قيمة النفط. وتنعت الدول الخليجية بالدول الريعية لاعتماد سياستها الاقتصادية على النفط وريعه على وجه الخصوص، خصوصاً أنها تظل في غياب أي أنشطة كبرى تساهم في مداخيل الميزانية، رهينة ما يجلب لها من أموال تنفقها بدورها في جزء ما على مشاريع التنمية المحلية، فهي التي تتسلم ـ وتكاد في هذا الغرض، أن تكون لوحدها ـ المداخيل هذه وتعيد إنفاقها لوحدها أيضاً.

والبتروريال، يتحكم إلى حد بعيد في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للسكان الخليجيين، بعكس الدول الأخرى التي تعتمد على الضرائب والقطاعات الإنتاجية الأخرى والخدمية في الاقتصاد الوطني. وعلى خلاف ما يذهب إليه خلدون النقيب، فإن الدخل من النفط يجعل الدولة الريعية، تتمتع بمرونة في العمل تفوق إلى حد كبير ما يحصل في الدول الأخرى التي تحصل على دخلها من الضرائب أو العملية الإنتاجية.

فالدولة الريعية تغدو كما هي ريعية، لا لكونها تنتج النفط وتعتمد عليه في اقتصادها، بل لكونها تدير عملية بيعه وإنفاقه لوحدها، إنها تتولى أمر إعادة توزيعه على النحو الذي تشاء. لقد أدى اعتماد الدولة على النفط كوسيلة تكاد تكون الوحيدة في دعم موارد الميزانية، ثم احتكار عائداته إلى تراكم رأس مال الدولة، فغدت في النهاية العامل الأهم في كامل الحياة الاقتصادية والاجتماعية ويتجسد هذا البعد في إدارة الدولة للريع وإعادة توزيعه وتدويره.

وهذا ما يؤكده حازم الببلاوي، حيث يرى ان دور الغالبية العظمى من السكان في الدول الريعية يعتمد على استخدامات هذه الثروة، وبحيث أن ما ينشأ عن ذلك من نشاطات اقتصادية تابعة يعتمد اعتماداً كبيراً على المصدر الأساسي للثروة (النفط).

فالدولة لا تنعت بالريعية ـ حسب تعريف حازم الببلاوي ـ إلا إذا توفر شرط مهم طبعاً إلى جانب الشروط الأخرى، ألا وهو استطاعة الحكومة إنفاق ريع النفط بمرونة تمكنها من تحقيق سياسة الرفاهية من دون القيود الموجودة في العالم الحر.

واعتماد دول الخليج على النفط باعتباره ريعاً خارجياً تتولى الدولة الخليجية إدارة توزيعه وحدها تؤكده التقارير السنوية الصادرة عن مؤسسة النقد العربي السعودي.

ونحيل القارئ إلى محمود عبد الفضيل، حيث يرى أن بلدان الخليج تعتمد اعتماداً شبه مطلق على "الريع النفطي"، حيث تكون الغلبة لعلاقات التوزيع (أي أساليب تدوير الريع النفطي داخل المجتمع)، ذلك نظراً للدور المحدود الذي تلعبه علاقات الإنتاج، نتيجة ضعف ومحدودية قاعدة الإنتاج المادي.

إن ريعية الدولة تشمل كافة مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بل السياسية أيضاً، فتراكم رأس المال لدى الدولة يجعلها المنفق العام على المجتمع من خلال ضخها لسيولة نقدية هائلة لا توازيها إلا السيولة الصناعية المستوردة التي تردم السوق الوطني. من خلال آليات الإنفاق العام والدور الاستثنائي الذي يلعبه هذا الإنفاق في الدولة الريعية، المتمثل في الباب الثاني، الرواتب وما في حكمها، التي تساهم في الاستهلاك اليومي والتعويضات العامة التي خلقت (أوليغاركية) مالية وعقارية طائلة الثراء وتحويل قطاع الاستيراد إلى أكثر قطاعات السوق دينامية، وكل ذلك من موازنة الدولة.

إن ضخ هذه المبالغ الكبيرة من رأس المال وتدويرها في الاقتصاد الوطني، أعطى الانطباع بالرفاه والازدهار الاقتصادي، من دون أن يحدث أي توسيع يعتدّ به إلى حد بعيد في القاعدة الإنتاجية للاقتصاد عن طريق التصنيع والتنويع في مصادر الدخل، وهذه هي الصفة العامة لاقتصاديات الدول الريعية.

إن الدولة التي تملك فوائض كبيرة من رأس المال تؤدي في حالة الاقتصادات الريعية إلى مزيد من التدخل البيروقراطي في الاقتصاد، مما يجعل أساليب الإنفاق العام تحت هذه الظروف تؤدي عادة إلى نتائج عكسية تعوق عملية تقدم وتطور النظام الاقتصادي والاجتماعي.

ـ فالرخاء أو الازدهار الاقتصادي الظاهر ليس مؤشراً على كفاءة أداء الاقتصاد الوطني أو مستوى تطور المجتمع أو درجة تصنيعه، بل ان الرخاء السطحي يؤدي إلى إعاقة التنمية بتخدير الناس ودفعهم إلى الاكتفاء باقتسام المنافع الآنية المتأتية من الإنفاق الحكومي المتولد من النفط، يضاف إلى ذلك أن عملات الدولة الريعية تقدر بأكثر من قيمتها الحقيقية، كما أن أجور السوق لا تعكس الكلفة الاجتماعية للإنتاج.

وهذا يدفع إلى تشجيع الاستيراد، بدلاً من تبني سياسة الإحلال بسبب الكلفة العالية للأجور، في قطاع النفط أولاً، مما يؤدي إلى ارتفاع الأجور في القطاعات الاقتصادية الأخرى. ويؤدي ذلك بالضرورة إلى انكماش وضمور القطاعات الاقتصادية التقليدية أو غيابها بالجملة، حيث لا تستطيع أن تجاري قطاع النفط أو قطاع البناء، فيحدث الخلل في تركيبة القوى العاملة، ويفضي إلى توسيع الاستخدام في القطاع الحكومي، مما يخلق بطالة مقنعة في الوظيفة الحكومية.

لقد ساهم النفط في إحداث ثورة في السيولة Cash Mony، مما استتبع توسع الأجهزة الحكومية والخدمات التي أفرزت نشوء الطبقات في المجتمع، والتوسع في القروض الخارجية.

ومن هذا يتأكد لنا أن النفط لم يساهم في خلق بيئة صناعية في المجتمع الخليجي، فصناعة النفط لم تكسب عمالها مهارات تفيدهم في مجالات خارج مجال النفط، حيث ان تقنيات النفط محصورة غالبا في استخراج النفط، وحتى في استخراج النفط فإن ارامكو السعودية مثلا، لم تمتد خبرتها في امتيازات خارج السعودية، رغم الخبرة الطويلة نسبيا.

فالسيولة الضخمة التي تعاملت بها ومعها دول مجلس التعاون الخليجي، الدول النفطية، في فترة ما سمي بـ (الطفرة)، وجهت وجهة غير اقتصادية على المدى البعيد أو حتى على المدى القريب. فقد كانت إجمالاً موجهة إلى مجال العقار مما جعل سعر المتر في مكة أو جدة أو الرياض يفوق سعر مثيله في نيويورك أو طوكيو، رغم الصحارى الواسعة في السعودية مثلا، كما وجهت السيولة إلى الاستثمارات في السياحة والاستيراد للحاجيات التي تمتص جيوب الناس، والكاتب لا يرفض هذا المبدأ إذا لم يكن على حساب المشاريع الإنتاجية.

لقد دفعت هذه الظاهرة المجتمع الى أن يكون مستهلكاً فقط، ولا يعرف إلى الادخار سبيلاً. لقد تفشت ظاهرة بناء القصور حتى بين أفراد الطبقة الوسطى، وأصبحت القصور والاستراحات ومنتجعات الترفيه والاستجمام ورشا للعمالة الأجنبية، مما جعل المجتمع يتحمل أعباء وتكاليف اجتماعية واقتصادية جداً مكلفة، كهدر الطاقة والمياه والرواتب والتكاليف المعيشية والعادم من جراء سوء الاستخدام، بالاضافة الى السلوك غير الصحي المتمثل في الاتكالية والبذخ وعدم تقدير قيمة الأشياء المستخدمة.

ان القطاع الخاص مرتبط ارتباطا عضويا بالاقتصاد العام المرتبط أساسا بالريع البترولي الذي لا يؤدي إلى قيمة مضافة رغم إمكانية ذلك لو وجدت الثقافة التي تبرز قيمة العمل الخلاق على المستوى السياسي والآيديولوجي.

ومن بيان السلبيات للريع في المجتمعات الخليجية، ترى هذه الورقة، ضرورة التركيز على بناء منشآت صغيرة وعلى بناء قاعدة عريضة للأسر المنتجة، ومعاهد تدريب لإعادة تأهيل راغبي العمل في المهن الخدماتية من السعوديين، أو، وهو الأهم، إعادة تأهيل الجاليات المقيمة من الإناث والذكور مما يحد نوعا من استقدام العمالة من الخارج، ويخلق مجالات رحبة للعمل وبناء أرضية قوية للاقتصاد الوطني من خلال التصدير وإشباع حاجات السوق المحلية وتلبية متطلبات الصناعات الأساسية التي ترعاها الدولة، وتذليل كل ما يمكن أن يمنع قطار التنمية من أن يندفع بالاتجاه الصحيح، وهي دعوة صادقة لاحتواء السلبيات التي حصلت في الماضي وإلى إعادة صياغة أولويات التنمية.

إن وقوفنا على هذا الشاهد الطويل أملته بعض الاعتبارات التي تخص قدرة هذا الشاهد على وصف الحالة الدقيقة لاقتصاديات الدولة الريعية، الاقتصاد الخليجي، وربط الجانب الاقتصادي بالسياسي والاجتماعي، فالريع لا يدمر مكونات الاقتصاد الداخلي من حرف وأنشطة زراعية.. إلخ، فقط، بل يمتد إلى مجالات اقتصادية واجتماعية ومجالات اخرى متعددة تتعلق بتدهور أخلاقيات العمل وانتشار الاتكالية وتورم الجهاز الاداري البيروقراطي.

[email protected]