هكذا تحدث العراقيون

TT

لم يكن يحق لأحد أن يقوم نيابة عن العراقيين بتصميم شكل السلطة التي يطالبون بها ولا نوع القرار الذي يجمعون عليه بخصوص المرحلة الانتقالية الدقيقة التي يمرون بها، باعتبار أن أحدا لم يقم في السابق بقياس الرأي العام العراقي بطريقة علمية منهجية محايدة وصحيحة. لكن مركزا جديدا للبحوث والدراسات الاستراتيجية أنشأته مجموعة من العراقيين الأكاديميين بقيادة الدكتور سعدون الدليمي أجرى في 19 يونيو (حزيران) الماضي أول حملة لقياس الرأي العام في بغداد بشأن الأوضاع القلقة الحالية شارك فيها 1100 مواطن من مناطق مختلفة متباينة، منها الأعظمية ذات الكثافة السنية، ومدينة الثورة ذات الأغلبية الشيعية العربية، والكرخ والرصافة ومناطق أخرى عديدة. وكانت العينة التي تم استطلاع آرائها خليطا غير منسق، يتراوح بين العالم والأمي، بين العامل والمدير العام، بين العائد من الخارج والذي بقي في الداخل وتحمل المعاناة بكاملها طيلة سنوات العذاب السابقة. وقد تم اختيار بغداد لإجراء ذلك الاستطلاع لأنها تمثل نسبة 23 بالمئة من سكان العراق، ولأنها تمثل الطيف العراقي الديني والاقتصادي والثقافي والطائفي والقومي والديني.

المفاجأة التي أظهرها الاستطلاع هي أن 63 بالمئة من العينة يطالبون بحكومة تكنوقراط غير سياسية. أي أن حوالي ثلثي شعب العراق، بشيعته وسنييه، بعربه وأكراده وتركمانه، بمسلميه ومسيحييه، لايثقون بالأحزاب السياسية الحالية ولا يريدون لها أن تحتل مواقع القيادة في الفترة الانتقالية. بعبارة أخرى لا يريد العراقيون أن يتسلل فرد أو حزب او فئة أو طائفة الى السلطة والانفراد بها والتسلط على العراقيين من جديد. وهذا بحد ذاته يشكل صمام أمان كفيلا بمنع أي نوع من أنواع الديكتاتورية من العودة الى السلطة في العراق. بل لقد فضل 23.6 بالمئة تشكيل حكومة من التحالف يساعدها خبراء عراقيون غير سياسيين. وفي الرد على سؤال حول مدى تعبير القوى السياسية الحالية عن طموح العينات التي شملها الاستطلاع قال 85 بالمئة تقريبا إن الأحزاب الحالية لا تعبر عن مصالحها وطموحاتها. وتعود أسباب تلك القناعة الى أخطاء السياسيين العراقيين، المغتربين، وخاصة ممن قبلوا بالوصاية الأمريكية أو الإيرانية أو العربية على الاحزاب وعلى قراراتها، أو الى سلوك تلك القوى السياسية عند سقوط النظام. فقد دخل البعض على الدبابات الأمريكية أو على أكتاف البريطانيين. واندفع بشكل سافر وممجوج الى الاستيلاء على أموال الدولة العراقية على قصور وأملاك قادة النظام السابق التي هي بالنتيجة مسروقة من الدولة. فمثلا طالبت وزارة المواصلات جماعة المؤتمر الوطني بإعادة السيارة المرسيدس المرقمة (2 وفود) حجم 300 SE ( لكونها ـ حسب الصلاحية المخولة لنا ـ مستخدمة من قبلنا) كما ورد في نص رد القيادة الميدانية للمؤتمر الوطني الذي نشرته صحف بغداد. فأية قيم وطنية تبرر سرقة المال العام من قبل أحزاب يفترض أنها عارضت النظام السابق لأنه سرق المال العام وتطاول على أملاك الغير؟

وعن المحور المركزي الأول الذي هدف اليه الاستطلاع والخاص بقوات التحالف وأدائها حتى الآن تبين أن نسبة 51.6 تفضل بقاء تلك القوات لحين تشكيل حكومة دائمة ، في حين لم يؤيد المطالبة برحيلها سوى 17.2 بالمئة فقط.

وحول إبعاد البعثيين عن مراكز الدولة تبين أن نسبة 67.2 بالمئة تؤيد إبعاد المسيئين منهم فقط، مقابل 27 بالمئة طالبوا بإبعاد جميع البعثيين عن المراكز الحكومية.

من نتائج الاستبيان يتضح أن الشعب العراقي قد حزم أمره وقرر اعتماد النضال السلمي الواقعي المتعقل كوسيلة لمواجهة استحقاقات المرحلة الحالية والمراحل القادمة من حياته. وأول ما يستشف من تلك النتائج أن غالبية العراقيين لم تعد سهلة الانقياد. فهي ترفض بقوة وتصميم أن تتخلى عن حريتها الجديدة ولكنها تختار النضال السلمي وسيلة للدفاع عن تلك الحرية. أما ما يقع هنا أو هناك في الوطن المتباعد الأطراف من حوادث قتل أو حرق أو نسف منشآت خدمية تضر بالمواطن قبل غيره فهي ـ من الرائحة البعثية التي تفوح منها ـ تبدو وكأنها محاولات لإعادة الزمن الى الوراء وإعادة جماهير العراقيين الى القمقم ومصادرة قرارها وتقرير مصيرها ومصير أبنائها نيابة عنها وفي ظل سياسة التغييب القاسية التي اتبعها صدام حسين وأعوانه طيلة العقود الثلاثة الماضية.

ويميل كثير من العراقيين الى الاعتقاد بأن ما يقوم به البعثيون اليوم سلاح ذو حدين. فعمليات الاغتيال التي يذهب ضحيتها مهنيون متعاونون مع قوات التحالف في مجالات الخدمة العامة، أو عمليات حرق المؤسسات المدنية كمحطات الكهرباء والماء هي محاولات لتحقيق مكاسب سياسية هدفها تأجيج نقمة العراقيين ضد قوات التحالف. لكنها وبالقدر الذي يجعل منها الإعلام العربي (المنحاز) دليلا على بوادر مقاومة شعبية (مقدسة) ضد المحتلين ينظر اليها العراقيون باعتبارها محاولات قصيرة النظر تؤدي ـ عمليا وواقعيا ـ الى مضاعفة القرف الشعبي العراقي من عناصر النظام السابق. فالمواطن العراقي لا يمكن أن يخدع في تحديد هوية القائمين بتلك الحوادث. فهو يعرفهم جيدا وقد خبرهم وخبر أفعالهم، خصوصا بعد تكشف الحقائق عن المقابر الجماعية والسرقات ومظاهر البذخ الفاحش غير المبرر وغير المقبول.

ولعل من سوء حظ المحرضين على تلك الحوادث أن أكثر المدافعين عنها والمروجين (لعدالتها) و(قدسيتها)عناصر بعثية عرفت بسوء سلوكها وانتهاكاتها لكرامة المواطن وعبثها بالمال العام. ولعل من المفيد هنا أن نقر بأن الأكثرية من البعثيين تبرأت من النظام وأبدت استعدادها للاعتذار عن مساهماتها السابقة في سياسات النظام السابق. ولا يستبعد الكثيرون من المحللين أن ينظم الشعب العراقي صفوفه ويبادر الى التجمع في مواقع مؤسساته الخدمية لحمايتها من التخريب، بعد أن ثبت أن قوات التحالف غير متعجلة في حمايتها، أوغير حاسمة في الاقتصاص من المفسدين الذين يقومون بالعمليات الليلية المخربة. وتتبلور الآن قناعة شعبية راسخة بأن أفراد أجهزة النظام القمعية لم يغيروا سلوكهم المعتاد. فمن أجل استعادة أمجادهم (الغابرة) يعرضون أمن المواطنين للخطر ويعقدون حياة الملايين ويضيفون معاناة أخرى الى ما قاسوه طيلة فترات الحكم السابق.

يقوم المهندسون العراقيون بإصلاح ما يخرب (هؤلاء) من محطات الكهرباء والماء، بمبادرات ذاتية وطنية. إلا أن المهاجمين يعمدون الى تخريبها على الفور، أو ينتقمون من أولئك المهندسين. فقد أقدموا مؤخرا على اغتيال مديرة كهرباء الكرخ ببغداد هيفاء داوود لأنها أصرت على إصلاح المحطة الرئيسية، ثم قاموا بتوزيع منشورات يقولون فيها (صدام أوصل الكهرباء والأمريكيون يقطعونها). وفي الناصرية ـ مثلا ـ دفع بعثيون 5000 دولار لحارس المحطة الكهربائية الرئيسية، ووعدوه بـ10000 أخرى مقابل السماح لهم بالدخول لتفجيرها، كعمل (وطني). لكنه أبلغ المسؤولين في المحافظة فنصبوا لهم كمينا والقوا القبض عليهم مع متفجراتهم واعترفوا بأنهم من بقايا تنظيمات ما يسمى بـ(فدائيي صدام). ومن سوء طالع هؤلاء البعثيين أن المواطن أصبح يضيف الى جرائمهم القديمة والجديدة تلك الحوادث التي يرتكبها مجهولون بقصد السرقة. ففي البيجي ـ مثلا ـ قام لصوص بقطع بعض الكابلات الضخمة التي توصل شبكة البيجي بالشبكات التي تليها، فلم تتحمل الكابلات المتبقية ضغط التيار الكهربائي فانفجرت المحطة، ثم انفجرت المحطة التالية وغرقت بغداد ومدن عديدة أخرى في الظلام وانقطع تدفق الماء كذلك بسبب ذلك وتحمل البعثيون جريرة تلك الحادثة العابرة غير السياسية.

إن الذي ينبغي ان أقوله في النهاية هو أن نتائج الاستطلاع الأول في العراق تناشد الأشقاء العرب ممن يزايدون على المواطن العراقي صاحب القضية الوحيد ويدعونه الى التمرد وحمل السلاح والتخلي عن عقلانيته وواقعيته أن يكفوا عن النيابة عن العراقيين وأن يتوقفوا عن التشدق بالكرامة الوطنية، بعد أن تشدقوا بمعاناة الشعب العراقي للدفاع عن الوضع السيئ السابق. فانا الآن أكتب هذه السطور وبين يدي وثائق مصدقة من الأمم المتحدة تفضح العلاقة (المصلحية الخاصة) بين النظام السابق وبعض العرب ممن دافعوا عنه دفاعا مستميتا وحتى آخر دقيقة، وإن كانت تلك العقود موقعة بأسماء بعض المساعدين أو الأقارب أو الأتباع. فإذا كان الحاكم السابق يبعثر أموال الشعب العراقي على (أشقاء) يدافعون عن بقاء الظلم والسرقة والاستبداد بحجة السيادة الوطنية والكرامة القومية فليس أمام العراقيين اليوم سوى نشر تلك الوثائق، لا للتشهير بمن استفاد من رشوات النظام، بل للدفاع عن حقهم في الاحتفاظ بإرادة حرة قررت أن تتولى صياغة وطنها ومستقبل أجيالها القادمة بنفسها وبالطريقة التي ترتئيها وتقتنع بأنها هي الفضلى، مهما زعم المزايدون من (الأشقاء).

*إعلامي عراقي ـ بغداد