الخارجية الأميركية وزارة «مارقة»؟!

TT

يمتلك نيوت جينجرتش طريقة معينة بانتقاء الكلمات الى درجة انه حتى عندما يقدم بعض المقترحات المعقولة، كما في هذه الحالة، تجاه اصلاح وزارة الخارجية الاميركية، فإن هجومه النظري يغطي على الايجابيات الواردة في افكاره. ويبدو ذلك جلياً في المقال الذي كتبه للعدد الجديد من «السياسة الخارجية» تحت عنوان «خارجية مارقة». بمثل هذا الخليط المدهش من الاتهامات الظالمة والمقترحات المعقولة، يصعب تحديد اين نبدأ. رغم ذلك، وبدل مهاجمة ناقل الرسالة، من الافضل مناقشة الرسالة ذاتها، وفصل الطالح واحياناً السخيف من مقترحاته، عن الصالح منها والذي يستحق دعم الطرفين الحزبيين.

نظريات جينجرتش يمكن تلخيصها عبر الاقتباس من العنوان الفرعي لمقالته: «مشاعر العداء للاميركيين في تصاعد مستمر حول العالم لان وزارة الخارجية تنازلت عن القيم والمبادئ مقابل التهدئة والمسالمة». ويشن جينجرتش هنا هجوما مستغربا على الخارجية، اذ يكتب: «لن يمكننا مواصلة تقبل ثقافة تشجع الديكتاتورية، وتحتضن الفساد، وتتجاهل قوات البوليس السرية».

هل هذا الرجل هو ذاته الذي قاد كمتحدث للكونجرس، الاعضاء الى التصويت ثلاثة الى واحد ضد سياسة الرئيس كلينتون في البوسنة، وهي السياسة التي انهت سنوات الحرب الاربع وبدأت بعملية توصلت الى خلع سلوبودان ميلوسيفتش؟ وهل «الثقافة» التي يشير اليها هي ذاتها التي يمارسها وزير الخارجية كولن باول، المدافع الدائم عن حقوق الانسان كما ظهر من تركيزه اخيراً اثناء زيارته لجنوب شرقي آسيا؟

اذا اخذنا بالمبرر المركزي لجينجرتش، يبدو ان هدفه الحقيقي يجب ان يكون البيت الابيض، بل حتى الرئيس شخصيا، كونه عاجزاً عن تسيير الخارجية والدفاع على خط قراءة موحدة، وخصوصاً في العلن. الفوضى هناك (وهي الأسوأ من أي وقت مضى في العقدين الماضيين) هي التي تحد من فعالية السياسة والدبلوماسية (وليس العسكرية) الاميركية في الخارج.

لكن جينجرتش يعتقد ان المشكلة موجودة في الخارجية كونها لا تنفذ سياسات الرئيس. مجدداً يجب التساؤل: عمن يتحدث جينجرتش؟ عن المسؤولين المهنيين في الخارجية، والمدربين (مثل العسكر) على الطاعة في خدمة كل رئيس؟ ام عن المسؤولين المعينين والذين يتغيرون مع كل ادارة ويتم اختيار كل منهم بواسطة البيت الابيض، ويشغلون اهم المناصب لصنع السياسة؟

هل اولئك المعينون، وبالمناسبة فابنة نائب الرئيس ريتشارد شيني (اليزابيث) واحدة منهم، هم الذين يتصرفون ضد سياسة رئيسهم؟ يبدو ذلك مستبعداً. ام ان المسؤولين في الخارجية لا ينفذون عمداً تعليمات وزير الخارجية والبيت الابيض؟ يمكنني ان اؤكد لجينجرتش ان ذلك غير صحيح.

بالطبع لجهاز الخارجية الاميركية اخطاؤه، لكنه ليس بالجهاز المتمرد. ليس من المستغرب ان الوزير باول، الذي يملك سجلاً غير مشكوك فيه من الولاء في الخدمة مع عدة رؤوساء، سيشعر بوجود تهجم عليه، ففي مقولات جينجرتش يبدو باول اما غير مخلص او عاجز في منصبه.

كل الرؤساء منذ عهد فرانكلين روزفلت اعربوا عن الضيق من وزارة الخارجية، ولكنهم في الوقت ذاته كانوا معتمدين على نباهة المسؤولين فيها، من شارلز بوهلن وفيليب حبيب حتى توماس بيكرنج. وبينما يرفض جينجرتش تقديم أي اطراء لجهاز الخارجية، فمن المعلوم ان نسبة الذين قتلوا في خدمة الخارجية تفوق نسبة الذين قتلوا من العسكريين منذ نهاية الحرب الفيتنامية.

وسوف اتحدث هنا ببعض الانفعال: لقد فقدت اصدقاء في خدمة الخارجية حول العالم خلال الاربعين عاماً الماضية، أناسا عرفوا المخاطر التي يواجهونها في تلك المهنة، ولكنهم واجهوها من دون شكوى. مسؤولون مثل نائبي، بوب فريزر، الذي قتل مع اثنين من اعضاء فريق التفاوض عندما كنا نحاول الوصول الى سراييفو في مهمة لصنع السلام. والسفير ارنولد رافيل الذي قتل في باكستان، والسفير سبايك دوبس الذي سقط في افغانستان، ودوج رامسي الذي اعتقل لدى الفيتكونج لسبع سنوات.

وإذ يرى جينجرتش تمرداً في الخارجية، فانني ارى مجموعة مخلصة من الرجال والنساء يخدمون امتهم. لكن، في المقابل جينجرتش مصيب في مطالبته بالمزيد من الاصلاح. صحيح ان معظم مقترحاته غير ثورية لكنها غير مخطئة، بل معظمها يشابه ما جاء من مقترحات جرى تداولها داخل وزارة الخارجية عبر السنوات. اما الاقتراح المفصلي الذي يقدمه فهو ان تصبح الخارجية «عامل تواصل اكثر نشاطا للقيم الاميركية حول العالم، ووضعها تحت اشراف مباشر للرئيس، وتمكينها من دعم الحرية ومكافحة الطغاة». والواقع ان اغلبية المسؤولين في الخارجية لا يرغبون في اكثر من ذلك، ولكنهم بحاجة الى تدريب افضل، ونظام اداري افضل ودعم مالي اكثر.

وعندما يطالب جينجرتش بزيادة 40 في المائة لتمويل الخارجية، فهو حتماً يقف على ارض صلبه. ولكن بدل لوم الخارجية، عليه الانضمام الى الوزير باول في مطالبة البيت الابيض والكونجرس بزيادة التمويل للجزء غير العسكري من ميزانية الامن القومي. ان ادخال جينجرتش الى هذا الصراع الدائم سيكون ثميناً، لانه كمتحدث للكونجرس، بل وقبل ذلك، كان دائما من المؤيدين لتقليص كبير في ميزانية وزارة الخارجية.

يبقى القول انني في عام 1972 وكمسؤول شاب في خدمة الخارجية، كتبت مقالاً بعنوان «الآلة التي عجزت»، وكان مضمون المقال حول الكثير من المشاكل ذاتها، ونشر المقال في العدد الاول من «السياسة الخارجية». لذلك سأقول لنيوت: اهلاً بك في الجانب الصحيح لهذه المعركة الطويلة. لكن اذا اردت القيام بدور جاد، فعليك الاستعداد لمواجهة بعض اصدقائك في البيت الابيض وفي الكونجرس حتى تساعد في تمويل الاصلاح الذي تطالب به، بدل ان تختلق اعداء في وزارة الخارجية.

* السفير الاميركي السابق في الامم المتحدة ـ خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»