.. وخواطر حول المقابر الجماعية (1)

TT

لا يتسنى لي، ضمن طاقتي البشرية ان اقرأ جميع السادة الكتاب في «الشرق الاوسط». وهناك ايضاً الضعف البشري، الذي يتحكم بي كما يتحكم بأي انسان آخر، وبالتالي يدفعني الى قراءة مقال ويصرفني عن آخر.

وهناك الاعجاب الذي يجعلني اقرأ كل ما يكتبه عدد من الكتاب والمفكرين وذوي الانفس النبيلة. والدكتور محيي الدين عميمور من بين الذين اتابعهم باستمرار والذين احترم تجربتهم. وقد شعرت بأسى حقيقي من الردود التي شنها عليه وانزلها به السيد صلاح الساير الذي اعلن انه يكتب باسم المثقفين العرب. ولا ادري منذ متى يستخدم المثقفون لغة التقريع والاهانة والتصغير والتحقير و... تكبير النفس. ولست ادري ايضاً منذ متى يقول المثقف الحقيقي عن نفسه انه مثقف. فالاسهل ان يقول انه امبراطور. اما اي انسان على قدر ما من الثقافة فيدرك ان اللقب مرهون اولا بتواضع صاحبه، وثانياً بأن احداً في الارض لا يرتقي اليه.

اثار الدكتور محيي الدين عميمور الجدل مرة اخرى في كلامه عن «المقابر الجماعية» في العراق. فهو يرفض ان يأخذ الامور هكذا، ولا بد من التدقيق، وفسر البعض ذلك على انه دفاع عن نظام او ثقافة المقابر الجماعية في العراق العزيز، وايده في نظرية الشك بعض قليل من الذين لا يعتقدون انه يمكن للنظام السابق ان يدوس على نملة (بيضاء خصوصاً). اما هو فأوضح في مقاله الاخير (الجمعة 4/7/2003) انه لا يمكن له الدفاع عن فكرة المقابر الجماعية او نسيانها، ولكنه من الذين يفضلون تقديم الاثبات قبل اصدار الادانة!

المؤسف ان الدكتور عميمور يكتب وكأنه يعالج امراً حدث في الدانمارك، او النروج، حيث تسقط الحكومة اذا اسقطت شجرة في ساحة المدينة، مع انه يدرك، من محنة الجزائر الاخيرة، ومن تجارب عربية كثيرة، ان المقابر الجماعية والمقاتل الجماعية والمجازر الجماعية، مسألة مفاخرة وليست عيباً او عاراً او جريمة. وربما يتذكر الدكتور عميمور، من تجربته السياسية الطويلة، ان العالم العربي هو المجموعة الوحيدة التي لم تقدم الى المحاكمة متهماً بالتعذيب او بالتنكيل. ومع اننا بلاد الثأر والانتقام، فإنه لم يحدث ان انتقم احد من جلاد، الا مرة واحدة عندما انتقم «السوريون القوميون» في لبنان لسجنائهم الذين تعرضوا للتعذيب على يد، او قبضة، مؤهل في الجيش يلقب «العازوري».

لا يقبل العالم العربي شيئاً سوى الجلاد. ولا يداهن احداً سواه، لان العربي يولد وفوق رأسه وصية جميلة مقتضبة شديدة الاختصار: هس، واللسان هو القاتل الاكبر عند العرب منذ التاريخ. وتعطى له حرية واحدة هي الطلاقة في مديح صاحب القبضة: من مخفر الشرطة القريب، الى القصور الرئاسية.

من سوء حظي انني كنت اقرأ الدكتور عميمور والجدل حول المقابر الجماعية «واثار الرصاص واسلوب الدفن والنقود العراقية التي لم تعد متداولة الآن»، في الوقت الذي كنت اقرأ كتاب «جدار بين ظلمتين» لبلقيس شرارة ورفعة الجادرجي، وهو وصف لعشرين شهراً قضاها المهندس العراقي وابن السياسي كامل الجادرجي في الزنزانة رقم 26 تحت اسم السجين 200 في سجن المخابرات في بغداد. اقول من «سوء حظي» لأنني كنت اتمنى لو لم اقرأ الكتاب ولم اقع عليه. وكما يحذر التلفزيون ذوي القلوب الضعيفة من متابعة برنامج فظيع، احذر ذوي القلوب الطيبة من قراءته. واحذر من كانت لا تزال لديه بقية وهم ايضاً من قراءته. واتمنى على اي شاب الا يقرأه لانه سيفقد كل امل ومرتجى وسوف يحزم حقائبه ويسافر الى السويد، التي يشتمها المهاجرون العرب لأنها لا تسمح لهم بإطلاق الرصاص في الهواء او حتى على بعضهم البعض. وتمنعهم بعد العاشرة ليلاً من اطلاق صوت خضيري ابو عزيز على جيرانهم. وترتكب في حقهم الظلم الاكبر بحظر ذبح الخرفان في الشوارع.

اعود الى الدكتور عميمور، الذي بعدما عرض ردود الفعل على نظريته حول صحة وجود المقابر الجماعية ام لا، يقول بكل بلاغة وحزم: «يبقى ان الفحوص الطبية هي الفيصل النهائي، وهذه مسؤولية شعب العراق نفسه». يا عزيزي الدكتور عميمور، هذه مسؤولية الانسان العربي في كل مكان. الى الآن يحاكم العالم الجزار بينوشيه ويطارده. الى الآن يمشي ضحايا بول بوت على سيقان اصطناعية. عن اي «فحوص طبية» تتحدث؟ هل هي جريمة فردية؟ هل هو تحقيق في وفاة رمسيس بالسم؟ خمسون مقبرة جماعية كشفت والف مقبرة لن تكشف. وهذه ليست مسؤولية شعب العراق. مسؤولية شعب العراق ان يحمي الاحياء وان يحمي الاطفال من التعذيب وان يحاكم الجلادين الذين طاردوه في منامه وفي يقظته وان يضمن انه لن يعود الى «قصر النهاية» سوى بشر يحترمون حياة الانسان قبل موته. والى اللقاء.